[x] اغلاق
حاضر لبنان.. مستقبل العرب../ طاهر حمدي كنعان
6/6/2009 11:02

في هذا اليوم المفصلي في تاريخ لبنان، الأحد 7 حزيران (يونيو) 2009، يذهب اللبنانيون بمئات الألوف إلى صناديق الاقتراع لانتخاب برلمان جديد يؤسس لمرحلة جديدة من حياة هذا الوطن الصغير بحجمه وعدد سكانه، الكبير بحيوية أهله وما استقر في جيناتهم من 'شيفرات' العبقرية لحضارات شرقي المتوسط التي اخترعت الأبجدية لدار السلم وأنجبت هانيبعل لدار الحرب.

وتأتي هذه المرحلة بعد تصفيات جيوسياسية أكسبت شعب لبنان تحكّماً أكبر في مصيره وسيطرة على مقدراته تجعله استثناء بارزاً بين الشعوب العربية التي تنيخ على كواهلها أنظمة لا تنفك 'تحصّن' شعوبها ضد 'مخاطر' الديمقراطية و'محاذير' الاستقلال عن التبعية لعواصم الدول القوية.

وآلام العدوان الإسرائيلي التي اعتبرتها كوندوليزا رايس آلام المخاض للشرق الأوسط الجديد، كانت في الواقع آلام ولادة أول قوة ردع حقيقية للهيمنة الإسرائيلية، حطمت الخرافة التي أصابت جسم الإرادة العربية بالشلل بعد هزيمة 1967، الخرافة التي تقول للشعوب العربية: ليس لديك القدرة على محاربة دولة تمتلك مائتي رأس نووي وتلتزم أمريكا بتسليحها حتى الأسنان، إذن فإننا لا نملك خيار الحرب، ولذلك علينا أن نختار الاستسلام ساعين إلى التقرب إلى أمريكا وخدمة مصالحها حتى تساعدنا في تجميل شروط الاستسلام. ما فعلته المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله هو بالضبط تقديم النموذج التطبيقي 'للخيار الثالث' إلى جانب 'خيار الحرب' و'خيار الاستسلام' وهو 'خيار الردع والإحتواء'.

الانتخابات اللبنانية اليوم هي منازلة كبرى بين قوى 'الخيار الثالث' الذي برهنت على وجوده وجدواه حرب الردع والإحتواء في تموز (يوليو) 2006 ، وقوى 'الخيار الثاني' ـ الاستسلام وجني شتى المكاسب المادية التي يضمنها التحالف الشرير بين طبقة 'أغنياء الريع النفطي ومشتقاته' ومصالح الرأسمالية الأمريكية وقاعدتها الأمامية في إسرائيل.

الناخبون اللبنانيون الذين يذهبون اليوم إلى صناديق الاقتراع، بعضهم سيقترع بوحي الولاءات العائلية والمصالح المحلية المناطقية. والبعض الآخر سيقترع بوحي 'المال السياسي' الذي تغدقه بدون حساب طبقة 'أغنياء الريع النفطي ومشتقاته' لتشتري أصوات الناخبين الفقراء الذين كانت هي السبب في استدامة فقرهم وتكريس العوز الذي يدفعهم إلى بيع اصواتهم.

لكننا غير معنييّن هنا بالناخب المدفوع بباعث الولاء أو المصلحة العائلية والمناطقية، ولا بالناخب المدفوع بالحاجة إلى أن يفرج بعض همومه المعيشية بالمال السياسي. لكننا معنيون خصوصاً بالناخب الذي يقف حراً ليمارس خياراً حراً في تقرير صورة لبنان المستقبل، التي بالمناسبة ستشكل القدوة الفعالة لمستقبل العرب. هذا المواطن مدفوع بما قد تشكل لديه من 'إدراك' ساهم في تكوينه الإعلام المضلّل وتزوير الحقائق. ما يقلقنا هو مواقف شريحة من المواطنين الأنقياء السريرة والشرفاء المقصد والمحبين للوطن اللبناني، الذين دافعهم غريزة حب الحياة والعيش الكريم (وليس بالضرورة رغد العيش!). هؤلاء قد يترددون في التصويت لحزب الله أو للتيار الوطني الحر أو غيرهما من عناصر 'المعارضة'، وذلك بتأثير هواجس مشروعة أهمها مايلي:

الهاجس الأول باعثه نمط من الشعور الوطني اللبناني في صيغة قصيرة النظر ترى أن القضية الفلسطينية قضية محصورة بفلسطين والفلسطينيين، وأن إسرائيل لا تشكل تهديداً للبنان شريطة التزام لبنان بمقتضيات حسن الجوار، وهو موقف حاسد لمصر والأردن على ما استكانتا إليه من معاهدات مع إسرائيل حدّت من القرار السيادي فيهما وفرضت عليهما النكث بمعاهدة الدفاع العربي المشترك، ما جعل مصر تقف موقف المتفرج حين اجتاحت إسرائيل لبنان حتى بيروت أول عاصمة عربية يدنسها الغزو الصهيوني.

هذا الهاجس نوع من خداع الذات حافزه إيثار الشعور الزائف بالسلامة وعمى البصيرة عن طبيعة إسرائيل ونظرتها الحقيقية إلى دول الجوار والمنطقة بعامة، وعن محاولاتها الفعلية استباحة الجنوب اللبناني وموارده المائية، وتحميل لبنان عبء توطين الفلسطينيين الذين هجرتهم إليه عام 1948.

هذا الهاجس يمكن تبديده مرة وإلى الأبد بالتأمل الموضوعي في طبيعة إسرائيل العنصرية الاستعمارية التي تفضحها مسلكيتها بل ويصرّح بها زعماؤها. يقول شمعون بيريس في كتابه 'الشرق الأوسط الجديد' الصادر بعد المعاهدة مع مصر وغداة اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين: 'لقد تغيرت المفاهيم التقليدية للدفاع الوطني (يقصد الحرب) من الاعتماد الكبير على أنظمة الحرب والسلاح، نحو مفاهيم حديثة تعتمد على الاتفاقيات السياسية والأمنية الدولية والاقتصادية.. المقومات المادية للاستراتيجية التقليدية للحرب، أصبحت كلها غير صالحة للتصدي المجدي لخطر الصواريخ الباليستية. وحتى أنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ فإنها محدودة الجدوى فضلاً عن كلفتها المالية الباهظة. أما مغزى 'العمق الاستراتيجي' فقد تضاءل بصورة كبيرة نتيجة حلول الاعتبارات الباليستية محل الاعتبارات الجغرافية. ليس هنالك إطلاقاً إجابة عسكرية شافية على الأسلحة غير التقليدية المحملة على صواريخ باليستية. الطريقة البديلة في التصدي لهذا الخطر هو التحالفات الثنائية والمتعددة التي تتعدى الحدود القطرية لتشمل الإقليم بكامله.. وعلى السياسة أن تمهد الطريق لإغناء الاستراتيجية العسكرية المحضة بالاستراتيجية السياسية والاقتصادية.(أي استراتيجية معاهدات السلام!)' (الشرق الأوسط الجديد، الفصل الثاني عام 1993، قارن بدروس حرب إسرائيل على لبنان في تموز (يوليو) 2006).

أما الهاجس الثاني فباعثه الطابع العقائدي الديني الذي يغلب على الجزء الأكبر من قوى المقاومة والذي يوحي بأن هنالك أهدافاً فوق قطرية وفوق لبنانية يبدي هذا الجزء من قوى المقاومة التزامه بها.

إن الحركات السياسية في كل العالم ومن جميع الأطياف قلما تحصر أهدافها بالقطر الذي تنشط فيه. ولكن إيمان هذه الحركات والتزامها بالمؤسسات الديمقراطية يقيّد بالضرورة طبيعة ونطاق النشاط الذي تجيز لنفسها القيام به في خدمة أهدافها فوق القطرية، ويجعل النشاط المذكور محصوراً بما لا يسيء للإجماع الوطني وبما لا يضر بالمصلحة العليا للوطن والدولة.

فإذا كان في لبنان قوميون يؤمنون بوحدة الوطن العربي والمصير المشترك للأمة العربية فإن نطاق نشاطهم 'العروبي' مقيّد بما يسمح به القانون الصادر عن المؤسسات الديمقراطية وشروط الإجماع الوطني للشعب اللبناني.

وينطبق المنطق ذاته على حزب الله وإيمانه بأهداف الأمة الإسلامية حيث يجب التمييز بين حزب الله كحزب لبناني ملتزم بمؤسسات لبنان الديمقراطية، وبين العقيدة الدينية للمواطنين المنتسبين إلى هذا الحزب والأهداف الإيمانية النظرية لتلك العقيدة.

وجدير بالتنويه أن السجل السياسي والمسلكي لحزب الله يؤيد بوضوح ذلك التمييز، معززاً بكلمات السيّد حسن نصر الله وخطبه المتميزة بأعلى درجات الصدقية، وتؤيده أخيراً مواد وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ الموقعة في كنيسة مار ميخائيل، ذلك الانجاز الوطني التاريخي الذي تقاسم الفضل فيه السيد حسن نصر الله مع العماد ميشيل عون. وربما كانت للعماد عون الحصة الراجحة من ذلك الفضل كونه أتبعه بخوض أصعب امتحانات الوفاء بشروط ذلك 'العهد' من خلال موقف التيار الوطني الحّر في حرب تموز الذي حمى ظهر المقاومة ومكنها من حسم الانتصار على العدوان الإسرائيلي ميدانياً وسياسياً.

ولقياس القيمة الجبارة لذلك الموقف يكفي أن نتخيل نتيجة حرب تموز لو كان موقف العماد ميشيل عون مماثلاً لموقف القوى المتحالفة مع المشروع الأمريكي. ولعل من الانصاف القول أن العماد عون، من خلال ذلك الموقف الوطني المبدئي، ضحى بحظوظه في قيادة ما يسمى جماعة 14 آذار وبالتالي في رئاستة للجمهورية، ولكنه بالتأكيد كرس حقه في أن نسميه 'السيد لبنان' لأنه صاحب الفضل الأكبر في المحافظة على وحدة لبنان واستقلاله ضد احتمالات كانت شبه أكيدة أن تتحول حرب تموز إلى حرب أهلية تمزق لبنان شر ممزق.

ربما يجيب البعض أن الجنرال ضحى بمجد صغير تافه لأنه، بدافع الأنانية الشخصية، ما زال يطمح إلى مجد أكبر وأفخم. لا بأس، فهذا النوع من الطموح هو في صميم الكبرياء الإنساني كما وصفه شاعر النفس البشرية ابو الطيب المتنبي:

أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصاً عليها، مستهاماً بها، صبّا....
فحب الجبان النفس أورده التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا.
"القدس العربي"