[x] اغلاق
معاناة الجنوب أو الذكــرى المنسيّة../ د.أسعد أبو خليل
6/6/2009 11:05

عندما ألقى وليد جنبلاط كلمة في مهرجان انتخابي قبل أسبوع من موعد الانتخابات، خاطب جمهوره الحريري الحاشد. تحدّث إليهم عن ثلاث معارك استقلال في تاريخ لبنان: قال لهم إن المعركة الأولى كانت في راشيا (مع أنه لم يكن هناك معركة ولا من يحزنون بل كانت صراعاً بين استعمار فرنسي واستعمار بريطاني). صفّق الجمهور بحرارة للإشارة. ثم ذكر معركة تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي على أساس كونها المعركة الثانية (فيما ذكر مهرجان تفجّع آل الحريري كمعركة ثالثة).

صفّق الجمهور للمعركة الأولى والثالثة، وصمت عند ذكر المعركة الثانية. لم تعنهم على ما يبدو. كم غيّر آل الحريري في الثقافة السياسيّة اللبنانيّة نتيجة تنفيذهم أوامر الأمير مقرن بالتأجيج الطائفي والمذهبي من دون هوادة.

لم يكن جنوب لبنان يوماً جزءاً من الجسم اللبناني. كان مثل الزائدة الدوديّة التي تحتاج إلى استئصال أو إهمال. نيويورك أقرب إلى لبنان من جنوب لبنان. لو كان الأمر بيد ساسة لبنان المعاصرين (والمعاصرات حتى لا ننسى الماما معوّض) لتُرك جنوب لبنان لإسرائيل تفعل به ما تشاء.

ماذا كان موقف هؤلاء الذين طالبوا بنزع سلاح المقاومة فيما كانت إسرائيل تعتدي على لبنان عام 2006، وفيما كان وزير الدفاع إلياس المرّ غائباً عن السمع؟ هل هناك من يظنّ أن أهل الجنوب سيسلّمون مصيرهم لإلياس المرّ (وطائراته العشر التي جلبها من موسكو على ما يقول؟) كانت الدولة (بجيشها ودبلوماسيّة آل الحريري والأمير مقرن) على المحك في عدوان إسرائيل عام 2006: كان يمكنها أن تثبت لأهل الجنوب أنها تملك بديلاً من المقاومة، فماذا حدث؟ اختبأ الياس المرّ فيما هبطت طائرة سعد الحريري في قبرص لأن زعيم عائلة الحريري أراد أن يستنجد برئيس قبرص لمساعدته في طلب وقف النار. طبعاً، هناك دموع السنيورة.

وسيذكر التاريخ فؤاد السنيورة. يخطئ من يظن العكس. سيذكره كما يذكر تاريخ العالم العربي نوري السعيد ووصفي التلّ (يحوّله بعض أدعياء اليسار في الأردن إلى رمز وطني تماماً كما يحوّل أدعياء بعض الشراذم اليساريّة في لبنان، سعد الحريري إلى رمز لنضال الطبقة العاملة) وغيرهم من أدوات الاستعمار الغربي.

سيذكر التاريخ فؤاد السنيورة عندما يُكتب تاريخ عقيدة بوش واعتمادها على حميد قرضاي في كل بلد تعمل العقيدة على تغييره، وخصوصاً في تلك البلدان التي عوّل بوش على تركيبها وفق الأهواء الصهيونيّة.

سيذكر التاريخ اللبناني فؤاد السنيورة كما سيذكر تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينية، محمد دحلان ومصطفى دودين. كان السنيورة خير الأدوات المُطيعة لبوش واستسهل تغيير وجهة خطابه بالكامل ـ توافقاً مع تغيير وجهة خطاب آل الحريري ــ وذلك تماشياً مع عقيدة مُلهمهِم بوش (نلاحظ أن أبواق آل سعود وآل الحريري فجأة استفظعت عهد بوش بعد زواله، وبدأت بنقده. الآن اكتشف وليد جنبلاط ــ صديق أليوت أبرامز وحليفه ـ كتابات طارق علي فيما كان يروّج قبل سنة فقط لكتابات الصهيوني العريق برنارد لويس).

عمل السنيورة على تنفيذ الأوامر بهمّة ونشاط قدّرهما له بوش. وإن يغفر التاريخ للسنيورة أفعاله وأقواله بما فيها دوره في فرض وحشيّة الرأسماليّة الفظيعة ـ لكن دور رفيق الحريري وحلفائه أكبر في هذا الصدد ـ فإنه لن يغفر له دوره الشنيع في أثناء عدوان إسرائيل وبعده على لبنان عام 2006، حتى لا نتحدّث عن دور له مرسوم قبل بدء العدوان عندما بادر قبل غيره إلى مخالفة بنود بيانه الوزاري بشأن دعم المقاومة. (وفريق الحريري يعتبر أن يوم 7 أيار أشنع من شهر العدوان في تموز 2006).

سيذكر التاريخ أن الصحف الإسرائيليّة والأميركيّة ذكرت وذكّرت بأن إسرائيل لا تريد أن تقوّض حكومة السنيورة وسلطته بعدوانها على لبنان. كان هذا هو الخط الصهيوني الأحمر. لم يعلّق السنيورة على ذلك. حتى مجزرة قانا لم تهزّه، وإن كان نبيه برّي فرض عليه مقاطعة كوندوليزا رايس ليوم واحد، وعاد السنيورة وخالف ما وعد به عن فرض شروط على المفاوضة مع الولايات المتحدّة.

كان السنيورة يستطيع أن يوقف العدوان بموقف أو خطاب واحد، أو بتهديد شكلي بالاستقالة. كان يظن أنه يستطيع بالتكافل مع آل سعود، مصدر الفتنة المذهبيّة في منطقنا.

وحتى عندما قامت إسرائيل بمناورة كبيرة قبل أيام، وقالت الـ «سي إن إن» إنها أكبر مناورة من نوعها في تاريخ الدولة الغاصبة، قال السنيورة إن «مراجع دوليّة» طمأنته إلى أن مناورة إسرائيل غير هجوميّة.

يمكن السنيورة أن يركن إلى تطمينات المراجع الدوليّة لكن لا يمكن أهل الجنوب أن يركنوا إليها. هل هي المراجع ذاتها التي أكّدت له أن إسرائيل ستنسحب من مزارع شبعا بعد حرب تمّوز؟ أم أنها المراجع التي أكّدت له أن العدو سينسحب من قرية الغجر المحتلّة؟

مرّة أخرى، تمر ذكرى تحرير الجنوب من احتلال إسرائيل هكذا عرضاً. عيد البربارة يحظى باهتمام من الدولة وأجهزة الإعلام الرسميّة يفوق الاهتمام بعيد التحرير. ووزير السياحة اللبناني (الموهبة فقط هي التي أوصلته إلى الوزارة) كرّس أموالاً باهظة من موازنة الدولة لحثّ الشعب اللبناني على التصويت في موقع على الإنترنت لاختيار طبق الكبّة كواحدة من عجائب الدنيا السبع.

أصبح التحرير عبئاً على سياسة آل الحريري الذين ـ منذ وعود رفيق الحريري بالربيع المقبل ـ عملوا من أجل اتفاق 17 أيار آخر مع العدو. (يستطيع المرء أن يراجع كتاب جورج بكاسيني عن الحريري وكتاب أنطوان سعد عن البطريرك صفير للتحقق من شخصيّة رفيق الحريري السريّة ـ مثله مثل سوبرمان).

ما علاقة كلّ هؤلاء بالجنوب؟ هؤلاء منذ انطلاقة رفيق الحريري السياسيّة المدعوم بـ 1 ــ الرشى والفساد المالي. 2 ــ سلطة التدخل الخارجي (سوري أو سعودي أو فرنسي أو أميركي). 3 ــ تأجيج غير مسبوق للصراع المذهبي والطائفي في لبنان. هؤلاء لا علاقة لهم بالجنوب ولكن من الإنصاف الاعتراف بأن الجنوب لم ينتم يوماً إلى لبنان ـــ مسخ الوطن هذا.

الجنوب كان ولا يزال عبئاً على الدولة لأنه يفضح عجزها وتقصيرها أو تواطؤها. الدولة اللبنانيّة تعاملت مع الجنوب منذ إنشاء دولة الكيان الغاصب على أنه حديقة خلفيّة لإسرائيل، تدخلها متى تشاء وتقتل فيها من تشاء وتسرق منها ما تشاء. ولبنان قرّر رسميّاً ومن دون إعلان أن لبنان ينأى بنفسه عن أية مساعدة للعرب في حروبه (الماضية) مع إسرائيل. هذه هي عقيدة فؤاد شهاب للجيش اللبناني التي سادت من 1948 حتى 1991. (لم يأتِ نقولا ناصيف على هذا الجانب في كتابه الموثّق عن فؤاد شهاب). كان شهاب يؤمن بنظريّة: «تودّد للشرّ، وغنِّ له».

ما نُشر من مراجع في العبريّة عن مفاوضات الهدنة بين لبنان وإسرائيل منذ 1949 تقشعرّ له الأبدان: تطمينات لبنانيّة بتطمينات، وتأكيدات أن لبنان لا علاقة له بالعرب. اعتبر فؤاد شهاب أن قضيّة فلسطين تعني كل الشعب العربي باستثناء لبنان لأن «ناسك صربا» لم يحتك بالناس خارج صربا ليلمس الغليان الشعبي حول فلسطين آنذاك، أو ليتعرّف على قضيّة شعب فلسطين من خلال المخيّمات. علاقة الدولة بفلسطين كانت في قمع الدولة للفلسطينيين وفي منعهم من الثورة على أوضاعهم.

وإسرائيل زارت لبنان قبل إنشائها. لعل فؤاد السنيورة وفريق الحريري يحتاجان إلى دروس في الجغرافيا والتاريخ اللبناني. إن ابتعاد الدولة عن الجنوب ـ حتى قبل الاستقلال ـ دفع بثقافة أهل الجنوب نحو العرب والعروبة. هذا ما حدا الشيخ أحمد عارف الزين لأن يهتف قبل الاستقلال: «إن تسل عنّي فهذا نسبي، عربي، عربي، عربي» (راجع نوال فياض، «صفحات من تاريخ جبل عامل في العهدين العثماني والفرنسي»). وعمل زعماء الإقطاع على ترويض شعب الجنوب كي لا تضرّ نزعاتهم العروبيّة وانتفاضاتهم الفلاحيّة بمصلحة المستعمر (أو الحكومة بعد الاستقلال). زعماء أهل الإقطاع كانوا وكلاء