في زيارتي الخاطفة الأخيرة للوطن في اواخر ايار 2009 ، للقاء " سري " مع أخت لي تسكن في حيفا ـ هي كل ما تبقى لي من علاقات مع عائلة تفتخر بأصولها ، جمعت الكثير من الصحف العربية، وخاصة اعداد صحيفة "الاتحاد" التي كانت في فترة من حياتي، الصحيفة التي لا يمكن ان اتناول فنجان قهوة الصبح دون أن اقرأ ابو الشمقمق وجهينة وسالم جبران وصليبا خميس واميل توما وعلي عاشور وآخرين أثروا الثقافة والفكر والصمود والكرامة العربية .
أدخلتني "الاتحاد" بنوستالجيا من مجرد رؤيتي لها وملامستي لصفحاتها ، وكيف لا وهي الصحيفة التي شكلت قناعاتي الأولى ، ووجدت فيها في شبابي الباكر ، الأجوبة عن الأسئلة المصيرية التي كانت تشغل بال تلك الصبية اليافعة المتمردة على القيود الاجتماعية ،وخطط الزواج المبكر لعقلية "البنت لابن عمها وهو يتولى أمرها " ، وأعطتني الاتحاد القوة والرؤية لأختار مصيري عكس التيار العائلي المتزمت والذي يرى بنا نحن الفتيات ضلعا قاصرا وعقلا ناقصا قد نوقع شرف العائلة بالعار اذا لم نلجم ونراقب ونقيد ونضب بزواج يرضي القبيلة وينهي قلقها .
ولكن الاتحاد فتحت أمامي أبوابا من المعرفة والوعي الانساني .. فتمردت على القبيلة ، لأكون انسانة مستقلة ومسؤولة عن مصيري ودراستي وعلاقاتي ، حيث تعرفت على زوجي اليوناني ، ولم يكن أمامنا من خيار الا مغادرة الوطن الذي أشتاق لكل حبة رمل وتراب فيه ، وللمساهمة بحياته الاجتماعية والثقافية والسياسية من داخله وباسمي الكامل ، وليس من الغربة وعبر الإنترنت .. وأسم جديد ، حتى لا تصاب القبيلة بالجزع وتسن السكاكين .وأعترف اني غير نادمة على خياراتي ، رغم اضطراري لتغيير أسمي اخفاء لهويتي حتى في الغربة، وقمع شوقي لأخوتي وصديقات طفولتي ، ولحسن حظي ، وحظ أختي بالتأكيد ، أنها تزوجت من انسان متنور ، ابن لعالمنا الواسع والحضاري ، فصار بيتهما ملاذي ، والعصب الوحيد الذي يربطني بعائلتي وأخبار أهلي الذين أحبهم بكل جوارحي وأتمنى ان اعانقهم فردا فردا ، وخاصة أمي التي هزمها المرض ورحلت دون أم أودعها ، وكان آخر ما همست به لأختي أن لا تقطع علاقاتها معي . ولكنها حكاية أخرى قد تكون فصلا في كتاب سيرة ذاتية لصبية تمردت ضد تقييدها بزواج مبكر ، وحياة لا تريدها ، واختارت العلم طريقا ، ووصلت الى مبتغاها في العلم والحياة ، حتى صارت اليوم ابنة للعالم الكبير ، وكاتبة معروفة باسمها الذي اختارته ، ليبقى أمنها ، وشرف قبيلتها .. بكامل الخير .
ما صدمني بقوة كان هزالة "الاتحاد" ، ليس بحجمها .. انما بفراغ فكرها وترهل نصوصها وفقر مهنيتها . بحثت بين صفحاتها عن "الاتحاد" التي شكلت عالمي الانساني ووعيي الثقافي وشكلت شخصيتي المتمردة ، وساهمت بتشكيل خياراتي المصيرية ... لم أجد " اتحادي " التي صنعت مني تلك الانسانة المستقلة المقاتلة التي أخذت مصيرها بيديها ضد كل ما كان يبدو مستحيلا وبعيدا عن قدرات فتاة هزيلة الجسم تسبح ضد عشرات التيارات والمخاطر !!
ونعود الى " الاتحاد " ...
في عدد الثلاثاء 26 ايار 2009 لفت انتباهي مقال للشاعر سميح القاسم، المحرر الفخري لصحيفة "كل العرب" يدعو اصدقاء "الاتحاد" الى الاتحاد "!!" ويشتكي بصراحة من وضع الاتحاد الذي لا يرضي محبيها في هذه الايام. وكم كان لطيفا ومجاملا كعادته في هذا التعبير ( لا يرضي ) في وصف "الموت السريري " لتاريخ صحفي وفكري وليس لمجرد صحيفة .. وقد سمعت من شيوعي حيفاوي قديم ، جار لأختي ،يقول ان توفيق طوبي ، من جيل الطلائعيين الشيوعيين العرب ( المحرر المسئول ) ، منزعج جدا من حال "الاتحاد" ، وبسبب حالته الصحية وعدم قدرته على النطق ، كتب على قصاصة ورق ، معبرا بألم عن انزعاجه من حالة الاتحاد الهزيلة . . وانها ليست الاتحاد التي يعرفها . وآمل اني نقلت المعنى الدقيق .
كنت اتوقع من الشاعر، المحرر السابق في الاتحاد، ان يطرح رؤية للخروج بصحيفة الاتحاد من النفق المظلم الذي تاهت بتشعباته ، بعد ان فقدت بوصلتها الفكرية والسياسية، وصارت منصة لكتابات هزيلة، وتحرير بدائي، واقرب شيء الى نشرة حزبية هزيلة تزعج حتى رفاقها وصاحب امتيازها الذي امتد به العمر ليرى ماساة المشروع الصحفي الشيوعي بعد سقوط المشروع الشيوعي الأهم ، ويبدو ان الماساة هي ماساة حزب الاتحاد ايضا المستسلم أمام هذا التفكك والانهيار للإمبرطورية ، والتشرذم والقيادة التي يصدق عليها المثل : من قلة الخيل " ................ " !! .
حسناً، كانت دائماً صوت الحزب الشيوعي، ولكن هل صوت اميل توما واميل حبيبي وسالم جبران ومحمود درويش وصليبا خميس وعلي عاشور وعصام العباسي ومحمد خاص وآخرين تفوتني أسماؤهم شكلوا العهد الذهبي للامبراطورية الصحفية النضالية التثقيفية المعرفية ، هو نفسه الصوت المخنوق والمتلعثم، الذي بالكاد يسمع اليوم؟
هل الصوت المدوي للاتحاد خاصة في فترة جهينة – اميل حبيبي وأميل توما وسالم جبران ، رؤساء تحرير الإتحاد ووضوح طروحاتهم الفكرية، هو نفس الصوت الخافت، المأزوم، الذي صار يرى بالولي الفقيه الشيخ حسن نصر الله "ماركسية القرن الواحد والعشرين"؟! وربما يرى بأحمدي نجاد مؤسس الاتحاد السوفييتي الجديد ؟!
اين اختفت "الطهارة الثورية" ، التي يدعيها سميح القاسم ايضاً والتي نشأ أبناء جيلي في أحضانها ؟!
الم يترك سميح القاسم العمل في الاتحاد ويذهب ليعمل محرراً لصحيفة "هذا العالم"؟ التي يقول في مقاله انه تركها خلافاً حول شخصية جزائرية مدحت اسرائيل، ورفض صاحب الجريدة أوري أفنيري أن ينشره؟! لماذا تجاهل القاسم عن ذكر ان بداية عمله الصحفي كان في الاتحاد،بعد أن طرد من التعليم مثل آخرين من المعلمين الشرفاء ، حتى جاء أميل حبيبي بمشروعة الثقافي – السياسي الكبير لجعل الحزب الدفيئة للثقافة والمثقفين العرب فاستوعب محمود درويش في رأس مجلة "الجديد" الثقافية ، ثم سميح القاسم في الاتحاد وعشرات المثقفين في صفوف الحزب .. واليوم بالكاد نجد مثقفا يشار الية بالبنان داخل صفوف الحزب الشيوعي .
معلوماتي الواضحة، ان سميح القاسم لم يشتغل اطلاقاً بمجلة "الغد" واستلم تحرير الجديد في بداية 1970 بعد سفر محمود درويش الى موسكو للدراسة، وقد تدهور مستوى المجلة الثقافي والفكري في وقته بشكل مؤلم... وكثيرا ما تجادلنا مع زملائنا الشيوعيين حول مستوى الجديد بعد سفر محمود ، ولا أذكر أن أحدا منهم أنكر صحة ملاحظاتنا .
الذي لفت انتباهي في مقال سميح القاسم ليس سطحيته فقط ، إنما إرفاقه بصور من لم يكن لهم يداً في رفع الاتحاد وجعلها صحيفة الجماهير العربية.
مثلا محمد علي طه ، ما دوره في الاتحاد ؟ الم يكن لامعا وبارزا في صحيفة مكتب رئيس الحكومة "اليوم " ووريثتها "الأنباء" صحيفتي مثقفي السلطة العرب في اسرائيل ؟! وهل ننسى رعب محمد علي طه من نشر احدى قصصه في "الاتحاد"| نقلا عن مجموعة قصصية أصدرها وقتها ، احتراما له ككاتب قصة ، فارتعب واعلن من صفحات جريدة مكتب رئيس الحكومة رفضه وغضبه من نشر قصة له دون اذنه ؟ هل صار من اعمدة مؤسسة الاتحاد ومؤسسي ثقافتها الثورية ؟ ام استفاد برفع اسهمه في حزب وزير المعارف وقتها – الحزب الديني القومي اليهودي ( المفدال ) الذي كان حرفها الانتخابي ال " ب " يضيء من على سطح بيته في كابول في مواسم الانتخابات ، وهو اللاجئ من ميعار ؟! وبالمناسبة لم اصدق ان محمود درويش كان يرتبط ، أو يقبل أن يرتبط بأمثال محمد علي طه ، وقد حدثني مفكر بارز ، طلب عدم كشف اسمه ، ان محمود لم يكن على علاقة اطلاقا مع محمد علي طه ، ابن صفه في ثانوية كفرياسيف والذي اختلفت طريقهما بعد الثانوية .. محمود انضم للحزب الشيوعي محررا لمجلة الجديد ومحمد للمفدال طمعا بوظيفة معلم !!
المزعج ان الشاعر الذي نحبه، سميح القاسم يريد ان يبيعنا امواج البحر، بجعل تاريخ الاتحاد وقفاً على اسماء لم تساهم في العمل الصحفي... وعاشت كأجسام طفيلية على جسم الامبراطورية !!
لماذا أغفلت يا استاذ، او يا محرر ، عن صورة الصحفي والمفكر والشاعر المبدع سالم جبران ، نائب رئيس تحرير الاتحاد لمدة ست سنين ورئيس تحرير الاتحاد في فترتها الذهبية ، هل صورة سالم جبران مخيفة لهذه الدرجة... وهل تظنون أن صور الطفيليين تسد الفجوة وتجعل الكذبة تاريخا ؟!
كيف تريد ان يتوحد أصدقاء الاتحاد، اذا كانت الاتحاد الحالية تعيش منعزلة فقيرة فكرياً ومهنياً وتخاف من تاريخها ومن بعض الشخصيات التي صنعت مجد تاريخها ؟
كنت اتوقع منك يا شاعر العروبة، ويا رئيس التحرير الفخري لصحيفة "كل العرب" ان تطرح رؤية مهنية تخرج الاتحاد من عزلتها وموتها السريري . رؤية تطرح الحقائق حول تاريخ الاتحاد وصانعي امبراطوريتها .
ان ازمة الاتحاد يا شاعر العروبة، هي ازمة الحزب وفكر الحزب وتنظيم الحزب، هي ازمة فقدان الحزب لكوادر المثقفين والقادرين على العطاء الصحفي والفكري.
لا ارى ان ذلك يقلقكم .. هل سيقلق الواصلين إلى برلمان إسرائيل . هل سيؤثر على مستوى حياتهم وتقاعدهم في المستقبل ؟ هل سيؤثر على حساباتهم البنكية ؟ ذهب جيل الطليعة وتخلصتم من مواصلي دربهم الطبيعيين .. وظلت لديكم قشور الفكر والشعارات الجعجاعة والعجز الفكري والترهل السياسي ، وكان من الطبيعي ان ينعكس ذلك على الامبراطورية الصحفية - الاتحاد !!
باستطاعتك يا سميح القاسم ، او باستطاعة محرري الاتحاد الهزيلة والمأساوية في حالتها اليوم .. ان تتجاهلوا صور صانعي مجد الاتحاد. مبروك عليكم محمد علي طه ، اليس هو نفسه رئيس اتحاد الكتاب العرب الفلسطينيين في اسرائيل الوهمي الفارغ من الكتاب ومن الثقافة ومن النشاط الثقافي ومن المؤسسات ورئيس حتى الممات ؟! اليست حالة اتحاد الكتاب من حالة صحيفة الكتاب الغائبين عنها أيضا ؟! هل محمد علي طه كان بتاريخه وما قدمه للإتحاد أهم من اميل توما وصليبا خميس وسالم جبران ومحمد خاص وعصام العباسي ، أو حتى من أسماء عشرات المثقفين ، حنا ابراهيم مثلا وليس حصرا ؟ عشنا وشفنا محمد علي طه صار منارة الاتحاد في زمن الكذب وفقدان شرش الحياء"!!
سنظل نحبك يا سميح ... وننتظر كلمة حق أكثر وضوحا !!