[x] اغلاق
الابتسام لا يكلف شيئاً فكم ستكلف المفاوضات؟../ عصام نعمان
5/7/2009 20:18

بعد أربع ساعات من المحادثات في نيويورك حول “وقف” الاستيطان، خرج ايهود باراك وجورج ميتشل وعلى وجه كل منهما ابتسامة عريضة.

تفاءل الإعلاميون وسألوهما عما إذا كان الابتسام يعني أنهما اقتربا من اتفاق؟ ردّ باراك وقد ازدادت ابتسامته إشراقاً: “الابتسام لا يكلّف شيئاً”!

صحيح أن الابتسام لا يكلّف نقوداً، لكنه يكلف وقتاً، فإلى متى يستمر باراك وميتشل أو غيرهما في الابتسام واستهلاك الوقت قبل أن يقرر كبار المسؤولين الأمريكيين و”الإسرائيليين” أن موعد المفاوضات قد أزفّ؟

الحقيقة أن المسألة ليست فقط مسألة ابتسام لا يكلّف نقوداً او إهداراً لوقت ثمين. المسألة هي كم ستكلّف المفاوضات العرب قبل أن تبدأ. ذلك أن ما يؤخر المفاوضات هو الخلاف، أو بالأحرى الاختلاف، على ما يمكن أن تكون موضوعاتها وليس بالضرورة ما يمكن أن تكون نتائجها.

صحيح أن ثمة اختلافاً، وليس خلافاً، بين حكومة “إسرائيل” وإدارة الرئيس أوباما حول مفهوم الاستيطان ومعنى وقفه أو تجميده، لكن محور الاختلاف هو شيء آخر أكثر أهمية. إنه الثمن أو الأثمان التي تريد “إسرائيل” استيفاءها للموافقة على بدء المفاوضات.

نتنياهو وباراك وليبرمان يريدون التفاهم مع أوباما مسبقاً على جملة أمور وتثبيتها من أجل وضع الفلسطينيين والعرب أمام خيارين لا ثالث لهما: إما رفض المفاوضات أو الموافقة على المشاركة فيها بعدما يكون مضمونها، المؤاتي لـ“إسرائيل”، قد جرى حسمه قبل مباشرتها.

كيف؟ ثمة موضوعات عدة يمكن رصد سلوكية “إسرائيل” تجاهها.

في مسألة الاستيطان تريد “إسرائيل” مجانبة إقرار أي نص يفيد عدم “أحقيتها” في استيطان الضفة الغربية، أو ما تسميه “يهودا والسامرة”، التي هي، في عرفها، “أرض إسرائيل” التاريخية. لذلك يجادل مسؤولوها كثيراً في مسألة “وقف” الاستيطان ليضمنوا إعطاءه معنى إجرائياً ليس إلاّ. إنه مجرد تدبير مؤقت لتسهيل مباشرة المفاوضات، لكنه لا ينسحب البتة على قانونيته. فالمستوطنات القائمة “شرعية” ويجب حماية حقها في “النمو الطبيعي”، ولا سبيل إلى إزالتها، إلاّ أنه من الممكن التوصل إلى اتفاق في شأن حدودها.

ما حدود هذه المستوطنات؟ لا حدود للاستيطان داخل “أرض إسرائيل” في العقل الصهيوني التوسعي. لتأكيد هذا “الحق” المزعوم تقوم حكومات “إسرائيل” على مراحل بتوسيع رقعة المستوطنات بطريق مصادرة نوعين من الأراضي:

* الأراضي المشاع (أو الأملاك العامة) التابعة أصلاً للدولة القائمة، أي للدولة العثمانية الذاوية أو لخليفتها دولة فلسطين في ظل الانتداب البريطاني ومن ثم للدولة الأردنية التي سيطرت على الضفة الغربية من 1948 إلى 1967. هذه الأراضي المشاع لا تعتبرها “إسرائيل” أراضي محتلة بل “أراضٍ متنازع عليها” ولا حق ثابتاً للفلسطينيين فيها!

* الأملاك الخاصة العائدة للفلسطينيين التي تقوم “إسرائيل” بمصادرتها بدعوى استملاكها لمشروعات عامة مقابل التعويض (البخس) على أصحابها.

بعد إعلان مبادرة أوباما وتسارع الحديث عن المفاوضات، قامت “إسرائيل” بكشف النقاب، بصورة غير مباشرة، عن مشروعات ضخمة للاستيطان لاسيما في القدس الشرقية ومحيطها (بناء 1450 وحدة سكنية) ومصادرة أراضٍ واسعة على طول الضفة الغربية للبحر الميت وأخرى محاذية لها وذلك بقصد حرمان “الدولة” الفلسطينية المقبلة من منافع البحر الميت من جهة ولفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها في المنطقة الوسطى (القدس ومحيطها) من جهة أخرى.

ما قصد “إسرائيل” من الإعلان عن هذه المشروعات والمصادرات في هذا الوقت تحديداً؟

القصد مزدوج: استثارة الفلسطينيين لرفض المفاوضات بحجة أنه لم يبقَ من فلسطين ما يسمح بإقامة دولة، وتكريس الاستيطان الصهيوني على معظم الضفة الغربية في المفاوضات إذا ما وافق الفلسطينيون على المشاركة فيها.

إلى ذلك، تسعى “إسرائيل” إلى تدفيع الفلسطينيين كلفة “أمنها” قبل الموافقة على بدء المفاوضات. فهي تضغط على السلطة الفلسطينية (حكومة سلام فياض) لاستئصال كل بؤر المقاومة في الضفة الغربية وحصر حمل السلاح بقوات الشرطة النظامية. كل ذلك بدعوى توفير الأمن الكامل لإقناع الرأي العام “الإسرائيلي” بجدوى إزالة الحواجز ومن ثم سحب القوات “الإسرائيلية” مما يكون قد تبقّى من الضفة الغربية.

هذه الأثمان تسعى “إسرائيل” لأن يدفعها الفلسطينيون قبل بدء المفاوضات، فما هي الأثمان التي تريد من سائر العرب دفعها؟

يتردد في هذا المجال حديث عن عودة “إسرائيل” إلى اشتراط المباشرة ببعض تدابير التطبيع العربية قبل بدء المفاوضات، كأن يسمح لطائرات “العال” “الإسرائيلية” بالمرور في الأجواء العربية، أو الهبوط في موانئها الجوية، وبإعادة فتح مكاتب التمثيل التجاري “الإسرائيلية” في بعض العواصم العربية.

يبدو أن أنصار مبادرة أوباما بين العرب “المعتدلين” أحسوا بوطأة المساعي والضغوط “الإسرائيلية” المار ذكرها ووجدوا من الضروري المسارعة إلى اتخاذ بعض المواقف التي تعزز المركز التفاوضي العربي من جهة وتشد من أزر أوباما في مواجهة الضغوط “الإسرائيلية” من جهة أخرى. في هذا السياق انعقدت قمة الرياض بين العاهل السعودي والرئيس المصري، وقمة شرم الشيخ بينهما وبين العاهل البحريني. وفي هاتين القمتين حاول القادة المذكورون تقوية المركز التفاوضي العربي بتسريع توصل “حماس” و”فتح” ومن ثم سائر الفصائل الفلسطينية إلى اتفاق مصالحة قبل آخر الشهر الجاري. كما تردد أنهم يسعون إلى ضم سوريا إلى جبهة العرب “المعتدلين” بعقد قمة سعودية مصرية سورية لبنانية (يحضرها أيضاً رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري) يصار بعدها إلى القول إن العرب جميعاً مع “مبادرة السلام العربية” ومع مبادرة أوباما، وحتى سوريا مستعدة لإجراء مفاوضات مباشرة مع “إسرائيل” على أساس القرارات الدولية ذات الصلة.

كل هذه الأثمان مطلوب دفعها مسبقاً قبل أن توافق “إسرائيل” على بدء المفاوضات. لكن، هل يقبل أوباما وهل يستطيع القيام بمهمة إقناع الفلسطينيين والعرب بدفعها؟ وإذا قبل الفلسطينيون والعرب، ماذا يمكن أن يحصلوا عليه من فتات الحقوق التي جرى اغتصابها تدريجاً على مرّ الزمن؟ وهل من يضمن انتهاء المفاوضات حتى بنتائجها الهزيلة، ولا نقول الهزلية، قبل انتهاء السنة الثانية من ولاية أوباما الذي سيكون مشغولاً، اعتباراً من مطلع السنة الثالثة، بالاستعدادات المطلوبة للفوز بولاية جديدة؟

الابتسام لا يكلف المسؤولين “الإسرائيليين” شيئاً. ترى كم سيتكلف الفلسطينيون والعرب، في ظل نظامهم الإقليمي المتهاوي، على مفاوضات قد تبدأ وقد لا تبدأ، وإذا بدأت قد لا تنتهي أبداً؟
"الخليج"