[x] اغلاق
وجوه شفاعمرية غابت.. لكنها في الذاكرة حاضرة (ج 2)
22/1/2015 19:32

وجوه شفاعمرية غابت.. لكنها في الذاكرة حاضرة (ج 2)

زياد شليوط

"فاذا رغبتم بالحقيقة في أن تنظروا روح الموت، فافتحوا أبواب قلوبكم على مصاريعها لنهار الحياة. لأن الحياة والموت واحد، كما أن النهر والبحر واحد أيضا".  (جبران- النبي)

ها قد طوينا عام 2014 بمساوئه ومحاسنه، وربما كان العام الراحل متميزا بسلبياته العديدة، التي فاقت ايجابياته، وبالتأكيد لن نأسف عليه كثيرا. في العام المنصرم غابت عن شفاعمرو وجوه متعددة ذات حضور قوي.. هزنا غياب بعضها وفاجأنا البعض الآخر، وتأثرنا لكل غياب وقع.. ويبقى الموت رغم مكروها رغم عدالته، ويبقى الموت سرا رغم وضوحه، ويبقى الموت مخيفا رغم بداهته.. فهل فعلا أن الموت والحياة أمر واحد كما قال الفيلسوف جبران؟ وهل حقا ما قاله سليمان الحكيم قديما بأن يوم الممات خير من يوم الولادة.. بمعنى أنه يمكننا أن نقرأ أعمال وآثار كل شخص ونحكم عليها بعد وفاته.. فاذا كان ذلك فعلا، فهذه محاولة لقراءة موت أو حياة من فارقنا من أصحاب الحضور العام، في العام الماضي من الشفاعمريين.. تسير تراجعيا من نهاية السنة الى بدايتها، وهذه هي الحلقة الثانية.

الشيخ شفيق سعيد قائد بيه (أبو منير)، معالج الأجساد والنفوس

ولد في لبنان عام 1914 ، وفي قرية تدعى عين عنوب في جبال الشوف، وينتمي لعائلة قائد بيه العريقة. جاء الى فلسطين وهو شاب يافع، لكنه سرعان ما عاد الى لبنان وانتقل الى سوريا، وعاد ثانية الى فلسطين سعيا وراء رزقه، وبصحبة عمه الذي تولى رعايته بعد وفاة والده وتحوله الى يتيم يجب أن يعتمد على نفسه. ولأن الحدود لم تكون بعد قد اعتمدت بموجب اتفاقية سايكس –بيكو التي فضحتها الثورة الشيوعية في روسيا، فأربكت أصحابها من الفرنسيين والانجليز، وكانت بلاد الشام مفتوحة على بعضها وتمكن أهلها من التنقل بين أجزائها وقطاعاتها بدون جوازات سفر، فقد تمكن الشيخ شفيق من التنقل والاستقرار في فلسطين.

وصل الشيخ شفيق الى حيفا وسكن فيها وسرعان ما التحق للعمل في المستشفى الحكومي (مستشفى حمزة) كما سمي نسبة الى مديره الدكتور اللبناني نايف حمزة، والمعروف اليوم باسم مستشفى "رمبام"، وعمل الى جانب الدكتور نايف ممرضا مؤهلا قرابة العشرين عاما، تعرف خلالها الى أبناء معظم العائلات في منطقة الجليل والكرمل الذين كانوا يأتون الى المستشفى للعلاج أو الزيارة، فيستقبلهم أبو منير، ويساعدهم بكل ما يمكنه، من تقديم علاج الى مؤانسة الى استقبال. ومن الذين تعرف اليهم زعماء المجتمع العربي آنذاك ومن الشخصيات المعروفة أمثال المرحومين: السيد جبور جبور، رئيس بلدية شفاعمرو والشيخ صالح خنيفس والشيخ حسين عليان (أبو نايف) والذي تقرب منه جدا فتحولا الى صديقين حميمين، وكان للشيخ حسين، تأثير قوي على الشيخ شفيق واقناعه بالانتقال الى شفاعمرو والاقامة فيها خصوصا، كما تعرف وأصبحت له علاقات صداقة بالوجهاء من الكرمل مثل الشيخ لبيب أبو ركن، رئيس مجلس دالية الكرمل الأسبق والشيخ قفطان عزام.

وريطته علاقة وثيقة جدا وخاصة، بالرئيس الروحي السابق للطائفة الدرزية، المرحوم الشيخ أمين طريف، وخاصة أثناء مكوث الراحل في مستشفى رمبام، وكان أبو منير يتردد عليه ويقدم له الخدمات المطلوبة، فربطت بينهما علاقة مودة وأخوة استمرت حتى آخر يوم في حياة الشيخ المرحوم أمين طريف. كما ربطته علاقات صداقة مع مختلف رجال الدين من كل المذاهب وفي عدة بلدان.

وخلال أعوام عمله تلك، كان يزور القرى والتجمعات السكانية المترامية، بتكليف من ادارة المستشفى، لتقديم العلاج والاسعافات والدواء للمحتاجين، الى جانب تجبير الكسور والتطعيم من أهل القرى ممن يتعذر عليهم الوصول الى المستشفى، فازدادت شبكة علاقاته وتشعبت الى كل بلدان الكرمل والجليل تقريبا، وحتى من بلدات الضفة الغربية.

ويحدثني نجل المرحوم، الأخ سمير قائد بيه (أبو أمير)، بأن الوفود العديدة والكثيرة التي حضرت من مختلف البلدات التي ذكرناها، الى بيت العزاء، استذكر أفرادها ورووا القصص عن المرحوم وخدماته الانسانية والطبية التي قدمها لكل من طرق بابه أو وصل اليه، الى حد أنه كان يقدم الدواء مجانا لمن لا يملك ثمن الدواء، واذا لم يحمل الدواء المطلوب كان يناول المريض ثمن الدواء ليشتريه من الصيدلية.

بعد النكبة التي حلت عام 1948، عاد الدكتور نايف الى بلاده لبنان، وترك الشيخ شفيق عمله في المستشفى، لينتقل الى شركة "سوليل بونيه" للعمل فيها حتى خروجه للتقاعد عام 1970. وبعد التقاعد حافظ أبو منير على علاقاته الاجتماعية ووطدها، وبقي عنوانا لكثير من الناس الذين طلبوا مساعدته كممرض سابق، فكانوا يلجأون اليه ليعالجهم أو يناولهم الدواء أو ليجبر الكسور.

كان حريصا على العلاقات الأخوية وصلة القربى، وكان يسعى لفض أي خلاف عائلي أو بين الأقارب، وتقريب القلوب وانهاء الخلافات الداخلية لينعم الجميع بالسلام الداخلي والهدوء الأسري.

كان رجل دين واظب على الصلاة في الخلوة، وربطته علاقات جيدة ووطيدة مع أبناء مجتمعه من مختلف الطوائف والمذاهب، تمثلت في الزيارات المتبادلة، ليس فقط في المناسبات والأعياد بل في الأيام العادية. وكان مشاركا في الحياة الاجتماعية وحضور المآتم خارج البلدة والمشاركة في تقديم العزاء.

تزوج في منتصف الأربعينات من القرن الماضي وأنجب 4 أبناء.

في عام 1982 زار لبنان بلده الأول ومسقط رأسه، والتقى أقاربه في جبال الشوف ومكث بينهم لمدة شهر، زار خلاله كل موقع وزاوية، وخاصة بيت أهله الذي ولد فيه، والتقى بأبناء عمه هناك، وأعلن أمامهم عن تنازله بأي حق بالورثة في بيت الأهل، مما يدل على جميل صفاته وأخلاقه.

ربى أسرته على قيم العطاء ومحبة الناس وحب العلم والمعرفة، ولهذا اهتم بتعليم أبنائه، وكان يحث الجميع على العلم، فنرى اليوم أن اثنين من أحفاده يدرسان الطب وواحد أصبح محاميا. وكان يقول بأن العلم درب من دروب الثقافة، وهو طريق النجاح في الحياة ويساهم في بناء شخصية الانسان ولا يمكن الاستغناء عنه في عصرنا.

اضافة الى ذلك أحب الشيخ أبو منير الأرض وعمل فيها وكان صديقا لكثير من المزارعين ويقدر عملهم.

وفي يوم 30 أيلول من العام الماضي 2014، توفي الشيخ شفيق سعيد قائد بيه (أبو منير)، عن عمر تجاوز المائة بعام (101)، باحترام وتقدير ويشهد أبو أمير أن والده عاش حياة عادية وطبيعية ولم يعرف الأمراض.

ويشير أن جنازة والده جرت مساء، وشارك فيها أهالي شفاعمرو من كل الطوائف، الى جانب جمهور كبير من خارج شفاعمرو من الجليل والكرمل وبمشاركة رجال دين محترمين، مشاركة الناس كانت تلقائية من منطلق المحبة والتقدير لعمل هذا الانسان الجليل على مدى حياته مع جميع أبناء المجتمع في البلدة وخارجها.

مروان خطيب (أبو نايف)، نشيط سياسي وطني وبلدي

انه من الأشخاص النشيطين رياضيا وسياسيا واجتماعيا في شفاعمرو..أول ما التقيته في اجتماع تحضيرا لمناسبة سياسية وطنية، جمعت الأطراف الحزبية المحلية في حينه، وابتدأت علاقتنا "بمناوشة" سياسية كعادة أهل الأحزاب، لكن ومن بعدها ربطت بيننا علاقة صداقة واحترام قوية.

عرفته نشيطا في صفوف الحركة التقدمية، وقد كان أحد الذين دعوني الى حضور اجتماعات الفرع والنشاط فيه، حيث اقتربت من الحركة لفترة قصيرة.. وكان هو قياديا في الفرع واستلم مهمة سكرتير الفرع..  كان انسانا وطنيا يمقت الطائفية ويدعو للتقارب والعمل المشترك.. وعرفته أكثر حين عملت مدرسا وكنت مربيا للصف الذي يدرس فيه ابنه نايف، حيث توطدت علاقتي به والتحق بلجنة أولياء أمور الطلاب في المدرسة، وكان يعمل بجد ونشاط لمصلحة المدرسة وطلابها.

استمر أبو نايف في نشاطه العام في البلدة ولأنه يحب الرياضة ويغار عليها، فقد انضم الى ادارة مكابي أبناء شفاعمرو وتولى مهمة مدير الفريق، وعمل على تقدم الرياضة وخاصة فرع كرة القدم وتطويره، واعادة أمجاد الكرة الشفاعمرية. كما كان عضوا في عدة لجان بلدية منها لجنة التعيينات في الفترة السابقة.

شقيقه الاداري واللاعب السابق المرحوم زاهر خطيب، الذي توفي قبل مروان بأربع سنوات، (رحمهما الله). أما يوم وفاة مروان فكان في 4 نيسان الماضي.

واليوم يواصل نجل مروان لاعب كرة القدم المعروف نايف طريق ورسالة والده ونتمنى له طول العمر والنجاح في مسيرته.

 

 

عبد الرحمن صديق، مرب ومدير قسم المعارف في بلدية شفاعمرو

وهل يمكن لشفاعمرو أن تنسى هذا الانسان الذي عمل في خدمتها وخدمة أبنائها جل سنوات عمره، مربيا في مدرسة "جبور جبور" ونائبا للمدير فيها، ومديرا لبيت الشبيبة وثم مديرا لقسم المعارف في بلدية شفاعمرو. جال في المدارس وعرف احتياجاتها ومطالبها وأدرك حاجات طلابها، وعمل قدر استطاعته وصلاحياته.

كان انسانا ناقدا وصريحا، كان خطيبا مفوها، متكلما بارعا، أكاديميا متواضعا.. يهتم بجمع الأقوال المأثورة، وقد سلمني ورقة قبل وفاته بشهور ما زلت أحتفظ بها، وفيها جملة من تلك الأقوال التي آمن بها أبو رامي، وعكست ما يشعر به فوزعها على الأصدقاء، قبل عام من وفاته بالضبط، ومما جاء في تلك الورقة قول للفيلسوف سقراط "ليس من الضروري أن يكون كلامي مقبولا.. لكن من الضروري أن يكون كلامي صادقا"، واني بأبي رامي يتحدث عن نفسه، فهو كان يتكلم ويكتب ويعبر عن رأيه، وأدرك أن كلامه لن يكون مقبولا على الجميع بالطبع، لكن ما كان يرضيه أن كلامه جاء صادقا ومخلصا. وقول آخر أراه عكس ما في داخله ورأيه في بعض الظواهر: "أظلم من الظالم من يساعد الظالم على ظلمه" وهناك قول آخر عميق المعنى " من يجذف ضد التيار لن يغير التيار" فهو رأى ألا تهدر طاقتك في مناقشات لا تجدي، بل اعمل على أن تغير بروية وحكمة.

ومن الحكم واقوال المأثورة الأخرى التي أوردها: "أجمل ما في الحياة أن تبني جسرا من الأمل فوق بحر من اليأس"، "اذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة  فان فساد الرأي أن تترددا" وهو للمتنبي و "من لد ليزحف لا يستطيع الطيران".

وختم تلك الورقة "مع تمنياتي لكم بقراءة ممتعة ومثمرة على أمل أن تضيف هذه الحكم ما امكن لقاموسكم الثقافي الواسع".

لقد كتبت مقالا موسعا في الصديق والأخ أبا رامي- رحمه الله- بعيد وفاته، الذي صادف 7 آذار،كما وكتب الكثيرون من زملائه وأصدقائه أيضا شهاداتهم، وهناك الكثير لنقوله فيه، لكن حتى لا نكرر ما قلناه نكتفي ونقول أن المربي عبد الرحمن صديق، انسان عمل باخلاص لبلده ومجتمعه خاصة في المجال التربوي والثقافي، ومن واجب بلدته عليه تكريمه.

خليل مشيعل- سكرتير مجلس عمال شفاعمرو وخادم الطبقة العاملة

من الشخصيات العامة والتي لعبت أدوارا هامة في تاريخ شفاعمرو وعلى مدار أكثر من نصف قرن، انه من الشخصيات المركزية في شفاعمرو والمنطقة، عرف أكثر ما عرف كسكرتير مجلس عمال شفاعمرو، وكان أبو سهيل صاحب نكتة وانسانا مرحا. توفي في 21/1 من العام الماضي عن عمر 89 عاما.

يقول عنه خلفه رئيس الهستدروت في شفاعمرو والجليل الغربي، السيد حسيب عبود: " كرس أبو سهيل حياته لخدمة الطبقة العاملة والفئات المحتاجة، فساعد كل من توجه اليه وفتح بيته ومكتبه لاستقبال المحتاجين، ولم يبخل على أحد ممن توجهوا اليه بالخدمة بالكاملة كما قاد النقابات المهنية في شفاعمرو والمنطقة على أحسن وجه وحارب في سبيل نصرة الطبقة العاملة ورفع شأنها فلمع اسمه في سماء المنطقة وحظي باحترام كبير وبقي في منصبه سكرتيرا لمجلس العمال لغاية عام 1994".

ويقول عنه الأستاذ الكاتب الياس جبور "لقد قضى المرحوم أبو سهيل معظم أيام حياته في خدمة جمهور واسع هام وأساسي في بناء كل مجتمع ألا وهو جمهور العمال، العمود الفقري لكل الشعوب".

ويشهد المربي الكاتب حاتم حسون " كان حضور راحلنا الكبير، مميزا ومتألقا في مختلف الميادين واللقاءات والاجتماعات والندوات التي شارك فيها، عرف أن المنافسة الشريفة لها قواعد فنجح باتقان اللعبة السياسية حتى شهد له القاصي والداني وحصل على احترام أشد منافسيه".
وقال عنه رئيس بلدية شفاعمرو السابق، السيد ناهض خازم "لقد كان أبو سهيل أحد الذين خدموا هذا البلد وعمل من أجل راحتهم وخدم المجتمع العربي عامة، كما سعى من أجل رفعته اجتماعيا وتثقيفيا ونقابيا، لئلا يبقى خارج دائرة الاستحقاقات والميزات التي ينعم بها الى يومنا هذا".

وكذلك اثنى عليه رئيس بلدية شفاعمرو الأسبق، السيد عرسان ياسين بالقول " أبا سهيل.. لقد خدمت المجتمع الشفاعمري والعربي أكثر من أربعين عاما من خلال عملك الدؤوب في الهستدروت، حيث كنت تمد يد العون والمساعدة لكل فرد دون تمييز".

(وردت أقوالهم في كراس الذكرى الأربعين للمرحوم خليل مشيعل)

عن أولئك ممن ذكرناهم في الحلقتين، يقول الشاعر علقمة- ذو جدن الحميري:

ننظرُ آثارَهُم كلّما                عاينَها النّاظرُ منّا شَجُع /(تشجع)

يُعرفُ في آثارهم أنّهم          أربابُ مُلكٍ ليسَ بالمُبتَدَع