[x] اغلاق
ســمٌ وترياق
16/2/2016 12:02

ســمٌ  وترياق

د. حاتم عيد خوري

ذهبتُ لزيارة صديقي أمين صادق (ابو صلاح) في إطار لقاءآتنا شبه الاسبوعية.

إستقبلني بابتسامة تبدو، لمن لا يعرفه مثلي، مشحونة ً بالتشفّي، قائلا لي:"أنا مش قلت لك ان الكلمة المكتوبة تطجّ عن سطح مخّنا ولا تخترقته. وبالتالي، فإنها لا تترك اي اثر على تصرفنا وعلى سلوكياتنا".

توقف ابو صلاح عن الحديث لحظة، ربما ليبلع ريقه او ربما ليتيح لي فرصة الردّ على هذه القنبلة التي فجّرها في وجهي.

لكنه عندما لاحظ أنني مستمر في إصغائي لحديثه، تابع كلامه قائلا: " لقد كتبتَ يا حاتم قبل نحو اسبوعين تحت عنوان "دمعة معبّرة" عن الدور الايجابي الذي يلعبُه الاطباءُ العرب في المستشفيات الاسرائيلية، كما كتب غيرك عن العنف المستشري في مجتمعنا المحلي بصورة عامة  والعربي بصورة خاصة.

وها نحن اليوم نرى اطباء ومعلمين يتعرضون لإعتداءات جسدية كما نرى نساء يُقتلن بحجة ما يُسمى شرف العائلة، فضلا عن شباب يتمّ اغتيالهم.....

أدركتُ ان أبا صلاح كان يتحدث معي تحت وطأة الاخبار المؤسفة جدا التي سمعناها في الايام الاخيرة عن الاعتداء على اطباء في مستشفى صفد، وعن قتل سيدات عربيات ربما على خلفية ما يُسمى بشرف العائلة، واغتيال شباب في اطار تصفية حسابات جنائية، حتى ولو ادّى ذلك الى قتل أناس ابرياء شاءت الظروف ان يكونوا في موقع الجريمة.

قلت لصديقي أمين: " رغم تحفّظي من التعميم الذي في حديثك، فانا افهم يا عزيزي، حرقة قلبك.

لكن هل هذا ينبغي ان  يمنعنا جميعا من الدعوة الى العقلنة في تعاملنا والى الكلمة الرقيقة الطيبة في خطابنا؟!.

قاطعني ابو صلاح قائلا: "الكلمة الطيبة تؤثر على الكرام، عملا بمقولة "إن انت اكرمت الكريم ملكته..." أما اللئيم المتمرد فانه يرى بالعنف بشتى اشكاله، وسيلةً لتحقيق اهدافه، إيمانا منه "بانك إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، و"ما بجيب الرطل إلا رطل واوقية" و "الحق للقوة" و "الحق على قدّ صحابو".

قلما رايتُ أبا صلاح في عاصفة غضب كهذه.

لكن لمّا كنت اعرف تماما مدى اخلاص صديقي امين لمجتمعنا وغيرته عليه واهتمامه به، استطعتُ ان أُعزو غضبَه لخيبة أمله من هذا المجتمع وعتبه عليه، باعتبار ان "العتب هو على قدر المحبة".

خشيتُ على أمين ان يصيبه مكروه، فقررتُ ان أنهي النقاش بروح طيبة كما تعودنا. قلت له:" ومع ذلك فإننا يا عزيزي امين، نقول في ذات الوقت:" ان الكلام الليّن اقوى من الحق البيّن"، ولعلّ القصة التالية التى كنتُ قد سمعتُها مؤخرا، تؤكد صحة هذا التوجّه":

يُروى ان ابراهيم تيتًّم من ابيه، في الخامسة من عمره، فتكلفت والدتُه ام ابراهيم بالسهر عليه وتربيته ورعاية شؤونه.

وما ان بلغ ابراهيم اشدّه وطرَّ شارِبُه، حتى سارعت امُّ ابراهيم الى إختيار سامية عروسا له وتزويجه منها.

اكتملت فرحة ُ ام ابراهيم بنجلها، لكنّ سيطرتها على كنتها لم تكتمل. رفضت سامية ان تكون خاتما في إصبع حماتها.

دبّ الخلاف بين الاثنتين وتسربت أخبارُه الى الجيران ايضا.

هذا الخلاف هزّ كيانَ ابراهيم واصبح يكره العودة الى بيته، حيث كان يجد زوجته تبكي وامه "تشكي".

لم يدرِ ابراهيم كيف يتصرف، فهو يحب زوجته ويحترم امه ولعله ايضا يخافها، كما انه يدرك تماما انه ليس قادرا على فتح بيتين مستقلين في آن واحد، وتحمل المصاريف المترتبة على ذلك.

تفاقم الوضع وحمي وطيس المعركة.

لجأت ام ابراهيم الى ضرب كنتها، فهربت الاخيرة الى بيت اهلها.

فشل ابراهيم في إعادة زوجته الى "بيت الطاعة"، كما فشلت في ذلك، كلُّ الجاهات التي اوفدها الى دار عمه.

لكن عندما مرضت ام ابراهيم وساء وضعُها الصحي، وفقدت القدرة على خدمة ابنها، قررت سامية رغم معارضة اهلها، ان تعود الى بيت زوجها.

استتب الهدوء في بيت ابراهيم فترة معينة.

لكن ما ان تعافت امه وعادت الى قواها، حتى عاد الصراع فنشب من جديد. 

فهمت سامية انّ الحلّ الوحيد لمشكلتها ، هو ان تتخلص من حماتها بارسالها الى  العالم الأخَر.

لكن كيف؟ هذا السؤال حيّر سامية وطيّر النوم من عينيها، فقررت ان تستشير صديقتَها هدى بالموضوع.

صُعقت هدى من هول هكذا استشارة ، سيما وانها لم تقتل صوصا في حياتها. لكنها شعرت في ذات الوقت، انها لا تستطيع التخلي عن صديقتها  سامية في محنتها، خصوصا وانها كانت تتابع يوميا ما تعانيه الاخيرة من حماتها  وسطوتها ومن "السمّ" المندلق من فمها.

إستغلت هدى غيابَ ام ابراهيم عن البيت، فسلّمت الى سامية قنينةً صغيرة مليئة بسائل شفاف، قائلةً لها بصوت خافت جدا وبنبرات يخنقها خوفٌ شديد: "إنتبهي مليح يا سامية. هذه المادة هي سمّ قاتل جدا يعمل بصورة تراكمية ، دون ان يترك آثار تسمّم على الضحية".

سكتت هدى لحظة وهي تتلفت يمينا ويسارا لتتاكد ان احدا لا  يسمع حديثهما لا سيما وأنه يُقال ان للحيطان آذان، ثم تابعت حديثها قائلة: " انتبهي مليح يا سامية.

إن ما نقوم به الان هو جريمة كبيرة، إذا اكتشِف امرُها فقد تكلفنا حياتنا. لذلك اطلبُ منك ان تنفّذي تعليماتي حرفيا.

اولا  عليك ان تضعي نقطتين من هذا السم في صحن حماتك، ثلاث مرات في اليوم، لمدة اربعين يوما. وثانيا عليك ان تحسني علاقتك مع حماتك خصوصا امام زوجك وجيرانك وكل من يزوركم، لئلا تكوني عرضةً للإتهام بموتها".

إلتزمت سامية بنصيحة هدى.

أخذت تقطرُ السمَّ في طعام حماتها بانتظام شديد، ثلاث مرات في اليوم، كما اخذت تجاملها وتلاطفها وتعاملها بمنتهى الرقّة والاحترام، وتحرص على بثّ محبتها المُفتعَلة بصوت عالٍ امام زوجها وجيرانها، مستعملةً تعابير لم تكن مألوفة في سيناريو المخاطبة بينها وبين  حماتها ام ابراهيم، مثل: "يسلموا إيديكِ، شكرا، بتعملي معروف، من فضلك، سلامتك، صحتين، نَشو، الله يحميكِ الخ....".

لاحظت ام ابراهيم هذا التحولَ الايجابي غير المنتظر، لدى كنتها. لم تكن في بداية الامر، ساذجةً الى حدّ تصديق ما تسمع ، كما لم يدر في خلدها ان مؤامرة قتلٍ تُحاك ضدها وتُنفّذ بهدوء.

غير أنّ نجاح سامية في إتقان تثميل دورها على امتداد اسبوعين كاملين، قد وفّر تغطيةً مُحكمة للجريمة كما أخمد تدريجيا نارَ الغضب والحقد والضغينة المشتعلة في قلب حماتها، حتى أطفأها نهائيا. رقّ قلب ام ابرهيم، واخذت تتفتح في داخلها براعمُ محبةٍ كامنة، لا سيما عندما سمعت كنتَها تخاطبها المرة تلو الاخرى، بكلمة "يا ماما" عوضا عن "يا حماتي" او "يا مراة عمي"، مما جعلها هي ايضا تغيّر خطابَها وتعبّر عن مشاعرها الطيبة تجاه كنتها وعن محبتها لها. بادلت سامية حماتها ذات المشاعر، فبادلتها حبا بحبّ. شعرت سامية بارتياح كبير وسعادة عارمة، سرعان ما بددهما قلقٌ رهيب على صحة حماتها، وخوفٌ شديد من تبعات الجريمة التي تعكف على تنفيذها منذ ثلاثة اسابيع. كان عليها ان تقرر وبسرعة.

توقفت عن دسّ السم في طعام حماتها ثم قامت باخراجِ قنينة السم من مخبئِها في خزانة الملابس، ووضعِها في جزدانها، مسرعة بالذهاب الى بيت صديقتها هدى، بحثا عن ترياق للسمّ الذي قد تراكم في جسم حماتها.

اصغت هدى لحديث سامية وفهمت قلقَها على صحة حماتها.

تناولت هدى من سامية قنينة السم، ثم فتحتْها بسرعة وافرغت كل محتواها في فمها.

صرخت سامية صرخةً تردّد صداها في بيت هدى، قائلة لها :"يا ويلي، ليش بدّك تنتحري؟!". لم تستطع هدى ان تتمالك نفسها اكثر من هذا، فانفجرت ضاحكةً ضحكةً مجلجلة، وهي تقول لسامية: " وهل الماء المقطّر يُسمّم يا عزيزتي؟"