[x] اغلاق
علّامة ٌ وعالِمٌ وحمار
29/2/2016 9:04

علّامة ٌ وعالِمٌ  وحمار

 د.حاتم عيد خوري

"العلّامة" هو الشيخ السعودي بندر الخيبري الذي ينفي دوران الارض، والعالِم هو جاليليو جاليلي(1564-1642) العالِم الفلكي والفيلسوف والفيزيائي الايطالي الذي قال انَّ الارضَ كوكبٌ صغيرٌ يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب، ممّا أثارَ حفيظة الكنيسة الكاثوليكية في حينه، التي اعتبرت موقفه طعنا بها،  فقامتْ بمحاكمته وسجنه.  أمّا الحمار فهو جحش طنوس الاشقر، وساتحدثُ عن كلٍّ منهم على التوالي.

يدّعي فضيلة ُ الشيخ بندر الخيبري، في حديثٍ مسجّل بالصوت والصورة، أنّ الارض ثابتة لا تتحرك ولا تدور حول نفسها ولا حول الشمس، إنما الشمس هي التي تدور حول الارض. ولإثبات وجهة نظره هذه التي يحاول  تسويقها  لمستمعيه عبر اليوتيوب(You Tube)، يقول ان الارض لو كانت تدور فعلا، فإن الطيّار الذي يقود طائرته في رحلة دولية من مطار الشارقة الى الصين مثلا، ليس بحاجة لان يسافرَ ساعاتٍ طويلة، إنما يكفيه ان يُحلّق فوق مطار الشارقة، ريثما تمرّ الصين من تحته، فعندئذ يهبط بطائرته في الصين!!.

وهكذا فإنّ فضيلة الشيخ "العلّامة" يتنكّر ويُنكر ولربما يجهل الاكتشافات والاختراعات  وباختصار الانجازات الكبيرة التي حقّقها العلمُ عبر مئآت السنين الاخيرة، اي منذ عهد جاليليو ومن سبقه من العلماء المبدعين الافذاذ كعالِم الفلك نيكولاس كوبرنيكوس الذي صاغ سنة 1543 نظرية مركزية الشمس وكون الارض جرما يدور في فلكها.

حديث "شيخنا" هذا آلمني واضحكني في آن واحد. آلمني لكون فضيلته يجهل، كما يبدو لي، ابسطَ المعلومات العلمية الاوليّة وهي ان الغلاف الجوي المحيط بالكرة الارضية، هو جزء لا يتجزأ من الكرة الارضية ذاتها، ويدور معها. وبالتالي فإنّ الطائرة التي تُقلع من مطار معيّن، ومهما ارتفعت في الجو، تبقى في الغلاف الجويّ، أي تبقى عمليا في الكرة الارضية وليس خارجها. أمّا ما أضحكني كما قلتُ آنفا، فهو ليس "لان شر البلية ما يُضحك" فحسبْ، إنما لاني تذكرتُ "قصة جحش طنوس الاشقر" التي كان يردّدها كبارُ السنّ في قرية فسوطه مسقط رأسي، وسارويها لكم كما سمعتُها.

ولِدَ طنوس الاشقر في فسوطه في اواخر فترة الحكم التركي، وعاش فيها طفولته ومطلع شبابه. فقـَدَ بصرَه في اواخر العقد الثاني من عمره، لكنه لم يفقد بصيرته، فمنذ نشأته كان طنوس ذكيّا وواعيا وصريحا ومُحدّثا مفوّها لبقا تأنسُ الناسُ لحديثه وترتاحُ لمجالسته، وكان يُضفي على الديوان القروي جوّا مميزا ويُكسبُه نكهة خاصة، تماما كما حدث في احدى امسيات سنة 1936 في فسوطه، إبان الثورة الفلسطينية  ضد الاستعمار البريطاني. واليكم ما حدث:

عُقد الديوان كالعادة في بيت ابو حبيب رضا الخوري، وكان يتصدّرُه احدُ القادة المحليين للثورة، والذي كان يُصرّ على تسمية نفسه، زعامة ً لا  تديّناً، بإسم الشيخ ذيب. كما شارك في الديوان إيّاه، بالاضافة الى المعزِّب اي صاحب البيت، مجموعة ٌ من اهل فسوطه بينهم طنوس الاشقر. تنقّـلَ الحديثُ، والحديث ذو شجون كما تعلمون، من موضوع الى آخر، وعندما ذكرَ احدُهم أنّ الارض تدور، فقدَ الشيخُ ذيب إتزانَه مُحتجّا على هكذا "خزعبلات" حسب تعبيره، معتبرا انّ الارض ثابتة لا تدور، ومتسائلا: "كيف يا جماعة ممكن إنو الارض بتدور؟ لو كانت الارض بتدور، لكان باب بيتنا الشرقي يكون مرة من الشرق، ومرة ثانية من الشمال ومرة ثالثة من الغرب الخ...". حديث الشيخ ذيب لم يُعجب طنوس، فبدتْ على وجهه ابتسامة ٌ ساخرة. لاحَظَ الشيخ ذيب ابتسامة طنوس، فانتهره قائلا: "مالك يا اعمى، شو مش معجبك هالحكي؟!". فاجابه طنوس: "لا مش معجبني، وانا استطيع ان اثبت لك ليش باب بيتكو الشرقي بظلّ دائما من الشرق، مع ان الارض فعلا بتدور". ردّ عليه الشيخ ذيب متحدّيا: "تفضّل إثبتْ".  فقال له طنوس: "لا، لن اثبتَ لك إلا بعد ان تعطيني الأمان"  ذلك لان طنوس كان يعرف تماما أنّ العقابَ لدى الشيخ ذيب يتراوح بين اربعين جَلدة وبين اطلاق النار علنا او سرا بتهمة جاهزة اسمها خيانة الوطن. تنهّد الشيخ ذيب متأففا: "الله يجيبِك يا طولة الروح. طيّب يا اعمى، عليك الأمان بَسْ إحْكِ". إستجمعَ طنوس جرأته وتنحنح قائلا: "إذا جِبْنا الان جحْشَنا الى هنا، وركَّبْناك يا شيخ ذيب عليه بالمقلوب ومسّكْناك ذيله، ثم مسَك احدُنا الرسن وجعلَ الجحشَ يدور حول نفسه، فإلى أين يبقى وجهك متّجِها؟".

يقول الراوي أنَّ الشيخ ذيب وقد اضحى مكبّلا بعهدة الأمان التي اعطاها لطنوس امام الناس، ترَكَ الديوان غاضبا، وأنّ طنوس رحلَ في ذات الليلة الى حيفا، حيث تعلّم مهنة صناعة القش المعروفة باسم شّد الكراسي، وبرع فيها واعتاشَ منها بكرامة، لأنّ من فقدَ بصرَه لا يفقدُ، كما قلتُ آنفا، بصيرته ايضا.  لكن هل كل من يُبصرُ يمتلكُ بصيرة؟ أرجو ذلك....