[x] اغلاق
رواق
7/3/2016 8:20

رواق

بقلم الكاتبة الفلسطينية: سعاد شواهنة –جنين

هربت من ضجيج المطر على نافذة غرفتها، يطرق زجاجها مرارا، يدق متسارعا مرة بعد أخرى، تستيقظ تشعل الدفء في وقتها، تشرب كأسا حارا من الشاي، وبين سعلتين تلف شالا من الصوف السميك حول عنقها، وتضع قبعة فوق شعرها الأسود الداكن، وتخرج إلى محترفها، تمشي مسافة من الوقت تحت أزيز المطر قبل أن تستقل سيارة أجرة تتقاسم مقعدها الخلفي مع اثنتين من النساء، لا يبدو في ملامحهن رغبة في الإصغاء لصوت المذياع المرهق بصخب البلاد.

تجاوزت شارعا ضيقا مرصوفا، تتقابل فيه الشرفات، وترتفع في أصوات ساكنيه، وفي آخر الرواق ثلاث درجات صغيرات، تصعدها إلى محترفها، تفتح الباب الخشبي السميك، وتدخل تنفض غبار الليل وبرده عن حجارتها الصغيرة الملونة. تركت شباكا واحدا مفتوحا، بزجاجه القديم بإطار خشبي، ورفعت الستائر عن نوافذها الأخرى وتركتها مغلقة، وانشغلت بمتابعة رصف الحجارة فوق لوحة تعدها لأحد الزبائن، تأخذ شكل المستطيل، وتمتد على مساحة كبيرة من طاولتها، وبين الفينة والأخرى تغير استدارة اللوحة لتجعلها أقرب إليها، بدا زبونها شغوفا بالفن، إذ طلب إليها إعادة رسم لوحة الفتاة في المرآة لنورمان روكويل بالفسيفساء، وكرر مرارا وهو يتفحص شكل اللوحة الأصلي في هاتفه:" سيكون شكلها جميلا في بهو منزلي المتواضع، وسأهتم بديكورات الزوايا المحيطة باللوحة لتنسجم اللوحة مع المكان أكثر، فالحرية أكثر دفء نحتاجه في برد ليلنا القارس. "قال عبارته الأخيرة برنين صاخب، كأنما كان يفتش لنفسه عن خاتمة مزلزلة للقائه الأول بفنانة حرفية مغمورة، يسكن فنها هذا المحترف الهادئ، في ممر ضيق في رواق لا يمر به الكثير من العابرين.

لم تكن تنتظر قدومه هذا النهار، فقد أخبرته أن اللوحة تحتاج بضع أسابيع لتكون جاهزة، لكنه قدم إليها ثانية، يرسم بين شفتيه ابتسامة دافئة، وبريق يملأ ما بين جفنيه، رفعت عيونها إليه، وراحت تمسح عن أصابعها بعض ما علق بها من اللاصق، وحاولت أن تبادله ابتسامة تخفي تفاجأها، ابتسم لها: " تبدو اللوحة جميلة، أنت تنجزين الأشياء بطريقة أسرع ما توقعت." تحركت بعشوائية الارتباط بين جدرانها الصغيرة، ذات الضوء الخافت، وقدمت له بعض الشاي: " لا زالت اللوحة تحتاج مزيدا من الوقت كما قلت لك." اقترب منها أكثر وقال بذلك الغموض وهو يقدم لها هديه:" لك أن تتأخري كما تشائين فقد تأخرت عنك عشر سنوات." تركها وغادر وقد أحس بأسئلة كثيرة تقف في حدود حنجرتها، دون أن تطلقها فتشاركه إياها لسبب لا تدركه.

فتحت هديته، وبين موسيقى أوراق الهدايا التي اعتنى أن تكون بألوان طفولية صاخبة، بدت لها دمية بضفيرة سوداء لامعة، وعيون سوداء، وابتسامة شفافة، وثوب مزركش. وضعتها في زاوية من رواقها، وأغلقت محترفها دون أن تتم رسم التفاصيل في وجه الدمية المعلقة بإهمال في ذراع صبية صغيرة تسكن حدود لوحة غير مكتملة.

سكنها صوت القلق والحيرة، صوت لم تستطع إسكاته، كما لم تستطع أن تحاوره، هربت منه بالسير في الشارع عائدة إلى المنزل، لم يكن منزلها قريبا، والشوارع لا زالت تعيش ذلك البلل الذي تركته على وجهها زخات المطر. تسير مستعيدة صوته، هديته، كلماته، ولوحته، تستعيد أشياءه التي تعرف، تحاول استعادة اسمه، لكنها لا تكاد تذكره، رغم أنه ترك لها بطاقته الشخصية، مؤكدا أنها تستطيع الاتصال به إذا احتاجت أي استفسار خلال عملها، لكنها لم تلق بالا لتلك البطاقة، إذ اشتعلت فيها روح فنانة صاخبة، لا تحتاج رؤيتها أي ضجيج من المحيط، وها هي اليوم تقلب الشوارع والأرصفة، وأسئلة لا تجد لنفسها إجابات في روحها.

أمضت ليلها حائرة، وصارت ترقب تلك المسافة بين طاولتها التي تنجز عليها لوحتها، وبين عارضي الباب، وبين غفلة وأخرى تسمع صوت الريح، قرقعة الشبابيك، صوت خطو في الجوار، وتنتظر أن يصل لكنه يختار أن يبقى بعيدا لبعض الوقت، يترك فيها حضوره الأسئلة، وترك لها غيابه الأسئلة، ولا زالت لا تعي الكثير مما تحس.

كانت قد أتمت جزء كبيرا من لوحتها، وبقي عليها إتمام صورة المرآة التي تنعكس فيها الفتاة لتكتمل الصورة، أدارت صوت المذياع، وأصغت لصوت القلق الذي تحياه البلاد، الوطن الذي عرفته دائما مساحة قلقة، ووعود بالغياب، سمعت أنباء عن جرحى في الخليل، وشهداء في القدس، وإصابة فتاة قبل أنها تحاول طعن مستوطن لترسم له جسا للموت، وقبل أن تسند ظهرها إلى الكرسي، كان يقف أمامها، يتأمل وجهها، يرسم الابتسامة ذاتها، يقرأ في وجهها تفاصيل حزن، رفعت رأسها إليه،:" اللوحة على وشك أن تكون جاهزة، صوت المذياع أربكني." تطلع في لوحته وقال: " فلسطين جسد لا يهدأ، ولا زال يشتاق موعده مع حرية يرسمها."

قدمت له القهوة وأنها تطلب منه أن يبقى وقتا أطول، ألا يغيب سريعا كما يفعل دوما، أخذ قهوته، ارتشف قليلا منها: " وتذكرين أني أحبها بقليل من السكر." رفعت رأسها إليه مندهشة تماما، عيونها تبدو أوسع، وصدرها يبدو أكثر اتساعا، تابع حديثه:" كبرت عزيزتي، صارت معالمك أكثر وضوحا، صار لك وجه أنثوي، وروح طفلة."  أحب صوت الدهشة في ملامحها، تزاحم الأسئلة في أبواب شفتيها، دون أن تفتح لها الأبواب.

كان يتأملها حين رن هاتفه، تحدث بهدوء بالغ، حاول الاعتذار عن حفل يقيمه الرفاق احتفاء بعودته، لكنه لم يفلح في ذلك:" كنت مسافرا إذن، ربما هذا يبرر اهتمامك بلوحة عالمية، كيف لم انتبه! ابتسم لها: " أبدا، لم أغادر البلاد، وربما سأحتاج وقتا حتى أستطيع أن أخرج في رحلة استجماع سياحية قصيرة، كنت أسيرا، قضيت هناك الكثير من الوقت." وقف مغادرا المكان وقد ترك لها هدية أخرى، لمح في شفتيها تساؤلا ما، فجاء صوته:" قبل أن تسألي، لوحتك لا زالت تحتاج مرآة، وأنت أيضا." تعلقت بيده وهو خارج، وقد أمسكت المرآة التي قدمها لها مع بعض أوراق لم تتفحصها بعد، قربها إلى صدره:" كبرتي عزيزتي."

نطرت في مرآته، تصفحت أوراقا تركها، بعض صور، صورتها في زيها المدرسي، وأخرى وهي تتعثر بحذاء ذي كعب عال، وصورة ثالثة وهي تبكي وتفتر شفتيها عن بسمة بين دمعتين، نظرت في مرآته وعادت تنجز ما تبقى من لوحتها، وكـأنها كانت تحتاج هذه الصور لتهدأ أسئلتها، كأنه لم يغب، كأنه لم يغادر محترفها، وقف في بابها مبتسما، وهي تقلب الصور: " كنت أختفي عن العيون، أتوارى عن عين قناص، وتسلل الجنود مساء، كنت أتقاسم الوقت مع الوحدة والعتمة." ردت وكأنها تتابع حديثه:" وأقاسمك الوقت، وأتسلل إلى عتمتك، كنت الشقية التي يمكنها أن تصلك."

-         لم تصليني وقتها.

-         كنت وعدتني بدمية، وعندما تسللت إليك أحمل بعض الحلوى، والطعام، لم تكن موجودا.

-         قلبت أماكن عديدة، لم تحضنني فيها عيون صبية شقية في ربيعها الخامس عشر.

-         لم أفهم غيابك، سمعت أحاديث كثيرة، قيل إنك نفيت، وأنك أصبت، وقبل أنك لا زالت مطاردا، ولم أدرك الكثير.

-         لاحقتني قوة عسكرية، هربت، أصبت، وكانت عشر سنوات قضيتها في الأسر، حلمت بصبيتي تكبر، وعدتها بدمية، وانتظرت أن تعدني بوجهها ينظر في المرآة، وتتفتح بين يدي."

صارت المسافة بينهما أضيق، صوت الوقت بات خافتا، لوحتهما تجلس بهدوء، وهما يتنفسان عناقا صاخبا تأخر سنوات.