مشروع السلام الذي أعده المفكر الفلسطيني الدكتور أفنان القاسم، يستحق دراسة جادة تفصيلية من العرب عامة والفلسطينيين خاصة ومن أبناء الشعب اليهودي الغيورين على مستقبل حياتهم في هذا الشرق الممزق والدامي. صحيح إن مشروعه سبق مشروع السلام العربي الذي قدمته السعودية ( الملك عبد الله عندما كان وليا للعهد ) في قمة بيروت وتبنته الدول العربية، وحسب قراءتي لخطة أفنان القاسم لا أرى تناقضات كبيرة بين المشروعين، بل تكملة هامة يضيفها أفنان، ويمكن تبني فكرته التي أخذت مصلحة الشعبين وليس مصلحة أحادية الجانب لشعب واحد وخاصة بتفاصيل مشروعه.
الدكتور أفنان كان بعيد النظر برؤيته الأهمية الاقتصادية في جذور الحل المقترح، والذي يميل إلى أخذ فكرة السوق الأوروبية المشتركة في تشكيل اتحاد فلسطيني إسرائيلي أردني سعودي. وبنفس الوقت لا يتجاهل مطلب إسرائيل الأساسي، فيما يتعلق بقضايا الأمن وأماكن العبادة بحيث تظل مشاركة مع الفلسطينيين في صيانة وإدارة الأماكن الدينية التي تخص الديانات الثلاثة. ولا تنفي حقها في بناء قوتها، بل ستصير ضمن القوة التي تحمي الاتحاد المشرقي.
الموقف الذي يطرحه أفنان القاسم من قضية اللاجئين هو موقف قد يثير غضب أوساط فلسطينية ما زالت واهمة بأن العودة إلى الوطن، الذي صار دولة يهودية متطورة، لا تنازل عنه، سأعرض لهذه النقطة بالتفصيل فيما بعد. أذكر أني استمعت لقائد فلسطيني من مخيمات لبنان يقول ما معناه: "كفانا أوهاما، لا يمكن أن نحصل على مطالبنا القصوى، واستمرارنا في هذه المواقف القصوى يلحق المزيد من المآسي بشعبنا".
حقا لا أحد سعيد بنكبة شعبه، ولا أحد يشعر بالفرح من الواقع المأساوي الذي مضى علية ستة عقود دون أن نشهد تقدما، بل تراجعا متواصلا وضعفا متواصلا في الموقف العربي، ولم يتطور إلا التطرف والرهان الخاسر على مطالب الحد الأقصى، حين لا نملك فلسطينيا أو عربيا قوة تسمح لنا بالتفكير في مطالب لن تقود إلا إلى المزيد من الضياع وفقدان المستقبل لأجيال عديدة.
أفهم أن أفنان القاسم لم يقدم طرحه للحل ليحظى برضاء أحد، إنما من رؤيته الواقعية الصائبة بأن كل تأخير سيكون مأساويا أكثر لشعبه.
حتى الرئيس محمود عباس ( أبو مازن ) لم يطرح عودة اللاجئين كشرط لا تراجع عنه، إنما طرح فكرة قريبة جدا، إن لم تكن متماثلة مع خطة الدكتور أفنان، بحل عادل لقضية اللاجئين. أفنان أعطى تفاصيل هامة ولم يكتف بطرح شعار فقط.
هل يتوهم أحد أن الحل العادل يعني حق العودة ؟
في تصريح قبل أيام قال محمود عباس إن التفاهمات التي توصل إليها الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي في قمة وايت بلانتيشن لا يمكن التراجع عنها.
ما هي هذه التفاهمات؟
نعرف أمرا واحدا مؤكدا حول قضية مركزية، وهو ما اقترحه الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون حول القدس، بان يكون الحل حسب قاعدة ما هو يهودي لليهود وما هو عربي للعرب.
في خطة الدكتور أفنان هناك خطوة للأمام لا تتناقض مع مقترح كلينتون.. يطرحها بهذا الشكل: "القدس: عاصمة الإتحاد. ستبقى موحدة. عاصمة إسرائيل (القدس الغربية) وعاصمة فلسطين (القدس الشرقية)، سيكون عليهما اقتسام للسلطات والمسؤوليات في إطار البلديتين. ستصان أماكن العبادة كما كان حالها دوما من طرف المؤمنين أنفسهم وجمعياتهم الدينية، تحت السيادة الفلسطينية في مجموع عُصَيْمَتِها (sous-capitale) وتحت السيادة الإسرائيلية في مجموع عُصَيْمَتِها. ستسهر على هذه الأمكنة شرطة بلدية مشتركة".
من المهم قراءة صحيحة لما يطرحه الدكتور أفنان، وخاصة فهم دقيق لفكرته التي يتحدث فيها عن حل قضية الارتباط بالوطن الذي سيصير مشتركا، في العديد من المجالات، وقد رأيت أن أقدم النص كما صاغه أفنان نفسه: "سكان كل دولة عضو في الإتحاد المشرقي أحرار في اختيار أين يعملون وأين يعيشون حتى في إسرائيل. هناك أميركان وفرنسيون وطليان وبولونيون... يعملون ويعيشون في إسرائيل من غير أن يمس وجودهم السمات الخصوصية لهذه الدولة لا من بعيد ولا من قريب، وهكذا سيكون حال الفلسطينيين. لصيانة الأنظمة التشريعية والسمات الخصوصية الدينية أو العرقية لكل دولة، وأولى الدول إسرائيل، هؤلاء السكان أنفسهم (أولادهم، أولاد أولادهم وكل الأجيال التالية) لن يُحْبَوْا حق المواطنة (صفة المواطن) والحقوق المدنية الأخرى إلا في بلدهم الأصلي".
الى حد ما هذا الوضع كان سائدا بعد الاحتلال عام 1967، مئات آلاف العمال الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية عملوا في الاقتصاد الإسرائيلي بكل فروعه، دخلوا بحرية تقريبا وعادوا الى بلداتهم، ونشأ تواصل بالزواج والعلاقات العائلية بين الفلسطينيين في إسرائيل والضفة وغزة، وكان من السهل على الفلسطيني أو الفلسطينية المتزوج أو المتزوجة للعربي الإسرائيلي أو عربية إسرائيلية أن يحصل على هوية وإقامة، اليوم صار ذلك من المستحيلات. الوضع تغير بعد بدء عمليات العنف وتفجير الحافلات التي قادت الى سقوط حكومة بيرس ( التي ترأسها على أثر مقتل رئيس حكومة إسرائيل الأسبق رابين شريك عرفات في أول اتفاق واعتراف متبادل مع منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل ) وصعود اليمين الذي شدد قمعه العسكري والحصار المؤلم ضد أبناء الشعب الفلسطيني، ووسع عمليات الاستيطان والاستيلاء على الأرض.
إذن أفنان القاسم يقدم اقتراحا ليس بعيدا عن واقع عشناه!!
أيضا خطة السلام بين بيلين وعبد ربه التي تحمل اسم "اتفاق جنيف" وتثير انتباه قوى سلامية يهودية في إسرائيل، لم تبتعد عن فكرة العاصمة المشتركة ضمن رؤيتها. وحل مشكلة اللاجئين بتصور لا يناقض سائر التصورات المطروحة.
كذلك خطة الدكتور سري نسيبة والجنرال عامي أيالون رأت استحالة طرح عودة اللاجئين كشرط للحل.
إذن نحن أمام اتجاه واضح.. الدكتور أفنان يفصل موقفه بوضوح كامل، حق العودة مقابل حق الإقامة دون حق المواطنة، ويضيف ما لم يظهر في أي مشروع فلسطيني إسرائيلي، بتعويض اليهود، من الأقطار العربية أيضا الذين غادروا أوطانهم الى إسرائيل، وهو بذلك يطرح معادلة متوازنة، كما يوجد حق للاجئ الفلسطيني الذي شرد، يوجد حق لليهودي العربي الذي ترك أملاكه ولجأ الى إسرائيل وبغض النظر عن المسببات. رغم أن هجرة أكثرية اليهود لم تكن على أساس المطاردة والاضطهاد، ولكن هذا الطرح يختصر النقاش الذي لن يقود إلا الى مزيد من التأزم. ومعروف أن الحركة الصهيونية قامت باستفزازات ضد اليهود لدفعهم للهجرة الى إسرائيل كما جرى مع يهود العراق مثلا. ولكن في إطار حل شامل يجب عدم إبقاء ترسبات وضغائن ولا بد من طرح متوازن رغم أن الشعب الفلسطيني هو الخاسر الكبير. مهما كانت الحلول عادلة اليوم.. العدل المطروح هو عدل نسبي.
هناك نقاش ما زال يتواصل حول مؤيدي حل إقامة دولتين مستقلتين وحل يرى أن الطريق هي إقامة دولة مشتركة.
لا أريد أن أخوض في هذا النقاش، رغم أن رأيي يتعارض مع حل الدولة الواحدة لأسباب ليس من الصعب لأي قارئ جيد للواقع السياسي السائد اليوم أن يفهمها.
ماذا يقترح أفنان؟
عمليا دَمَجَ في رؤيته بشكل مقبول أكثر بين الفكرتين. دولة فلسطينية مستقلة الى جانب إسرائيل، واتحاد مشرقي يجمع الدولتين مع دول أخرى.. وتحافظ كل دولة على مميزاتها واستقلالها أسوة بما يجري في الإتحاد الأوروبي.
بالطبع هناك إشكاليات صعبة، أهمها موقف القيادات الإسرائيلية، تعالوا نقرأ ما جاء في افتتاحية هآرتس ( 2009 – 09 – 18 ):
" إسرائيل هي أمة مفرطة الحساسية، مليئة بالمآسي العميقة والمخاوف المبررة، ولكن نتوقع أن يتصرف قادتها بعقلانية، وبرودة أعصاب وذكاء في مواجهة الواقع المأزوم – وليس ترديد أجوف للمخاوف والمرارة، كما يتصرف بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان من منطلق توجه تشاؤمي يميل الى تحقيق نفسه".
من هنا رؤيتي انه بدون رعاية جادة، وضغط جاد من الدول الأساسية، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان، وقوى منطقية مثل تركيا ( التي بدأت تلعب دورا شرق أوسطيا متعاظما بعد فشلها في الانضمام للإتحاد الأوروبي ) لا أرى أننا سنتقدم الى حلول تخلص شرقنا من العنف والدماء والكراهية المستفحلة.
إن المشاريع التي قدمت تكاد تكون مشتركة في العديد من النقاط، في خطة أفنان إضافات تفصيلية هامة يجب ملاحظتها.
آمل أن يتقدم العقل وليس القوة فقط، وفي النهاية سنندم كلنا على كل يوم نتأخر في إنجاز الحل الدائم والانتقال حقا الى شرق أوسط جديد تتنافس دوله في التطور ورفع مستوى حياة السكان ونوعية الخدمات، وهي ستكون أكثر أهمية من أي مساحة نختلف عليها اليوم.. وأعتقد أن المشكلة الأساسية في الملعب الإسرائيلي، المتمسك بالفكرة الأسطورية التوراتية الغبية حول وعد الرب لشعبه في أرض كنعان. لأن هذه الأرض لن يبقى فيها إلا عظام الموعودين وأعدائهم!!
كاتبة وباحثة اجتماعية فلسطينية مقيمة في قبرص