[x] اغلاق
غروب
15/4/2016 7:32

       

غروب

بقلم الكاتبة الفلسطينية: سعاد شواهنة - جنين

لأول مرة يعي الفقد لغة تتحرك في حدود جسده المهترئ. وقف يحاكي سنين عمره في كل حجر مسن أسقط عليه ثقل أيامه ولحظاتها. وفي كل ركن أرخى عن نفسه صورة ما وعاد يثقل بها الذاكرة. في بهو منزله الصغير تقاسم وزوجته بعض الموسيقى وسمعا موسيقى الصباح تتناغم وطعم القهوة في شفتيهما. وفي حديقة منزله لا يكاد يمر حتى يتردد إلى روحه صدى سهراته وجلساته ورفاق سنينه المتحجرة عاما بعد الآخر. يرى الذاكرة صورة حية تختال في كل ركن وهو الوحيد المنفي عن صورتها. هو الحرف الوحيد الذي أسقطه العمر سهوا في عمر النسيان.

    يقلب الوقت. يرقب عقارب ساعته صامتة مشدوهة في ركن الحائط. تقف خجولة منذ اختار ان يكف عن سماع طنينها الأبله. وكل دقيقة تقتلها ساعته تقربه من قتل روحه أكثر. نظر إليها واعيا أن ساعته توقفت منذ عمر مديد وخرج.

   على مسافة من الذكرى يقف. لم يقرأ مراسم الوداع. لكنه عاش طقوسه بمرارة اللحظة. رأى حجارة منزله ات التجاعيد الغائرة تنحني وقد أوقعت عصاها الأخيرة. تأملها هامدة وكم يعي أنها في موتها حية وفي سقوطها صارخة.

   سيمر بعد أيام. وسيقف على مسافة أبعد من هذه. ربما سيسمح له أن ينظر من الربوة البعيدة في الزاوية المقابلة. تجرع ألمه وانزوى بعيدا منحنيا على صخرة بعيدة.

    لم يكن ارتفاع جرس الكنيسة في الساعة السادسة من أعاده إلى يقظته، وبث فيه دفقا من الروح في شريانه المبتور.التفت إلى صوت أولاد القرية يجمعون بعضهم البعض ويحملون بعض الأوراق التي خططوها برسومهم الصبيانية. تجمعوا حول ركام منزله، بينما وقف مذهولا يراقب جرأتهم وتخطيهم تلك المساحة. جمعوا صورهم الواحدة بعد الأخرى وعلقوها على ما تبقى من حجارة رصفوها وراحوا يقفزون فوقها بطفولة. على مسافة منهم يقف يتأمل وعيهم الطفولي. وحيوية رسومهم. وعلى شفتيه تسللت بسمة سرقت من عينيه دمعة.

          لعهد طويل عنت له الجدران الكثير. لم يملك يوما ذاكرة حية. أحب كثيرا أن يلون جدرانه بالوحدة. هادئة عارية هي دوما. لم يعلق عليها اي صور. تركها حرة لا يقيدها انين ايامه. تنفس صورة الجدران. عنقها تاركا تلك المساحة لتسكنه. وظل دوما حريصا ألا يسكنها جسدا ولا يثقلها ذاكرة.

      في كل مرة يمر فيها ببعض الصبية في ساحة القرية. ترتسم على شفتيه بسمة لا يكاد طفل يعرف كنهها. يتقدم إليه أحدهم بالتحية. ويقرأ على روحه أطياف خلافات صبية ساذجة. يعي تماما أن لون شعره الأبيض وتجاعيده المتناثرة في صفحة وجهه تقف صامتة في باب ذلك الطفل. لم يكن واثقا أنه يحسن النصح. أو أنه يتناسب ورغبة الطفل في احتواء خلافات أصدقائه العابثة.

    قاوم رغبة عارمة في اقتحام ساحة عمرهم. كم تمنى لو انه ترك لنفسه تلك المساحة من الانعتاق. يحيا ما أراد كيف أراد. وككل مرة تجاوز الأطفال وسار عنهم بعيدا.

   على مسافة من كل شيء يقف الآن. ترك منزله عاثرا بالغبار. هرب من صوت نفسه. وصدى الطفولة المتأرجحة في طياته. طوى جفنيه عن جدران الكنيسة.بدت جدرانها باردة هادئة. فقد مر وقت طويل لم تشده إليها. وهو على عهده ظل حريصا إلا يترك في جدرانها فيضا من روحه. لألا يثقلها يوما بالشوق إليه. وليبقى أصما لا يسمع صوتها إذ تناديه.

    بدا مشتتا لا يصغي لصوت المكان المتسارع حوله. تقلبه الصور تتصفحه جذوع الاشجار. ترمقه حجارة الشوارع. ووحدها كرة ذلك الصبي جاءت إليه مندفعة ترتطم بدقات قلبه المتسارعة. كانت كرة تتقاذفها أقدام الصبية لا أكثر. ليست فارسا يقتحم أسوار نفسه إلا أنه لم يمنحها فرصة الارتداد بعيدا. فقد جاء صخب قلبه كفيلا بدفع الكرة بعيدا مرة أخرى.

     على مسافة ارتباك الوقت بين جيلين تدحرجت الكرة لتقف ساكنة عند قدم الصبي. وقف حائرا إذ لم يجد لكلمات الشكر مكانا في هذا السياق. أمسك الكرة ومسح ما علق بها من قلق. وعاد يتأمل وجه العجوز المتعثر: " كم هي جوفاء كرتي إذ لم توقظ فيك طفلا يندفع خلفها."

بدا العجوز غير مكترث بعيون الصبي المتأملة. أصلح ياقة قميصه وسار بعيدا: " لم أكن يوما لاجتاز تلك المسافة بيننا"، يسير هذا المساء واعيا أكثر من أي وقت مضى ان لا مكان يخصه. لا زاوية يلقي على كاهلها ثقل نفسه. يقتله صمتها اليوم يذهله غيابها. عاتب هو على روحها هي التي لم تخذله يوما. لم تتركه واقفا في باب وعد لم تفيه إياه. يتأمل بيتها الابدي عاتبا رحيلها. تركت له ذاكرة هادئة وحياة مبتورة دونها.

    يتذكرها بقوة الآن فقد كانت كل ما وهبته الدنيا. لقد حرص ان يكون زاهدا في كل شيء حوله. أراد لها أن تكون روحه وذاكرته. وهي تحب ان تسقط روحها في كل مكان تكون فيه. زينت امكنتها واحترمت صوته الخافت الذي أحب أن يحظى بزاوية ساكنة وجدران صامتة. لم يقل لها الكثير.لقد غادرت دون أن تعي احتياجه لأمكنة هادئة. واعتزاله للصور. وزهده للهدايا ومراسم الاحتفال.

    وقف على ما تبقى من حجارة مجروحة أعدمت هذا المساء. يعرف الآن أنه لم يحتفي يوما بها. إذ لم يرد أم يسجنها فيه. أو أن يترك لها تلك المساحة فتحبه ويشق عليها غيابه.

   جدرانه تعرف كل ما قاله. تقرأ معالم وجهه. أما هو فقد صار يدرك أن اللحظات الاولى لا تغادرنا. ان الكلمات الأولى لا تمنحنا تلك الفرصة لنختار نسيانها.

   قلّب الشوارع سار مسلوب القوى. تشده الذاكرة التي نفى نفسه عنها مرارا لتعيده إليها وتتركه يقف ثانية خلف جدران الكنيسة.

  نأى بروحه عنها طويلا. علها وعله ينسى. فيقف في باب بداية أخرى. بات يعرف ان الجدران لا تحتاج صورا لتتذكر. وأنها تسكنه وإن ترك الباب موصدا دونها.

     كل لحظة عاشها جاءت ارتدادا للحظة وجوده الأولى. بين هذه الجدران وجد صدرا تنفس في جنباته وجودا جديدا. تفتحت شفاهه على لغة لم ينطقها بوعي. جميلة كانت إذ لا يثقلها شيء. لا يقيدها. جميلة أرادها. لكنه وعي تسرب إليه وكسر قالبها الجميل.

       لم يكن بحدث نفسه سار مجتازا حديقة قضى فيها مساحة من عمره. نظر في كل ركن:" أدرك الآن كم كنت غبيا وكم قسوت عليك، أضعت وقتا طويلا لأعرف أني لم أعش وعيا كالذي عشت بين جدرانك. لم تكن سطوة اللغة التي دفعت إلى شفاهي حروفا دون أخرى فناديتك أمي."

    يسير بين جدرانها علها تذكره. هو الذي حرص إلا يترك شيئا من روحه في المكان. عاد علّ المكان يصحو على قامته التي كانت تنحني طفلا وصارت تنحني كهلا.

    منذ عرف أن الأرض تركته وحيدا يتنفسها، ويحاول جاهدا أن يكون موجودا على متنها. أسقط من لغته أما لم يعهدها وأبا لم يعرفه. وأسقط عن الجدران حروفا قد وعى انها لم تعد ملكا له.

     هي وحدها من أيقظت قلبه. كانت الوحيدة التي التفتت إليه. معها أدرك لنفسه وجودا جديدا. وأسقط نفسه من ذهنية الغياب. دعته إلى أمكنتها فأحب وجوده فيها. قلدته نفسها فجعل منها مرفأ فتش فيه عن كل ركن فقده. وقد وعدته إلا تغيب وغابت.

     لا زال يذكر وجهها صامتا مبتسما لثورته حين أرادت الاحتفال بيوم ميلاده وعلقت على جدرانه الصامتة صوره طفلا، شابا، ورجلا أحبته. تركته يسقط على الجدران فيض صراخه. وكفيه تمزقان بعنف كل صورة انفقت وقتا تجمعها إليه.

    كم يتمنى لو انها هنا الآن لينحني بين ذراعيها فتسمعه:" كنت تعلمين، ولم أكن أريد أن أعرف أن ليس لي سوى الجدران لتذكرني. لم أفتش لنفسي عن مرفأ سواك. وكنت تعلمين أن ليس لي سوى الجدران.

   هي ليست هنا بعد اليوم. ومنزل تقاسما فيه أيامهما صار ركاما. وبعد أيام يكتب له عمر جديد بأيد أخرى. وهي تركته كما أحب بلا روح. بلا ذاكرة بلا هدايا. وأطفال يروي لهم غربته وحبها.

   بلا شيء هو الآن. وقد نفي عن جدران وحجارة منزله. وعاد ثانية ليحيا بين جدران كثيرا ما اشتاقت إليه ولم تجده.