[x] اغلاق
دُرَّة عِلميَّــة استثنائيّــة
18/6/2016 9:34

دُرَّة عِلميَّــة استثنائيّــة

لذكرى رحيل البروفيسور والخال إبراهيم فريد الدُّر

بقلم: مارون سامي عزّام

قدرة الإنسان على العيش حياة هانئة تبقى رهينة الظّروف العائليّة والشّخصية، وقدرة ذاكرته على استرجاع ذكريات السنين الماضية، تبقى سجينة خلف قضبان الحسرة، وتكيُّف الإنسان مع الغربة أمر مستحيل، لأنه يبقى مُعتقلاً في أسر الحنان، بعد أن فقد التواصل الفعلي مع وطنه، لذا يبقى رابط الاتصال الهاتفي الدّائم مع عائلته، هو الذي يخَفّف عن الإنسان وحدته، هذا ما قام به الرّاحل البروفيسور إبراهيم الدر، في أواخر حياته، إلى أن رحل ليس عنّا فقط، بل عن عالم الكتابة والإبداع العِلمي والفِكري، الذي كان يملأ أوقات فراغه في غربته.

لم تسَعه فرحته بزياراته إلى شفاعمرو عامّةً وأهله خاصّة، إذ كان يعتبرها فترة تاريخيّة نادرة لن تكرّر، بقيت حيّة في وجدانه. راودته رغبة شديدة بأن يرجع ليستقر في بلده... خلال سفريّاته إلى منطقتنا، كان الحنين يوجّهه لزيارة أهله، لم يتوانَ في ذلك. كانت ذاكرته تتمشّى معه في أحياء شفاعمرو... في أزقّة طفولته وشبابه، فمرّت بجانب واجهة الذكريات الجميلة، المزيّنة بأجمل القصص والحكايات التاريخيّة.

كان تعلّقه بإخوته وأخواته شديدًا، كم فرشوا له سجّاد الترحاب والاشتياق الحقيقيّين على أرض اللقاء الحار في كل زياراته لهم، كم فتحوا له بيوتهم، فكان ضيفًا مُميّزًا بإطلالته، كان مرشدهم الصّحي والاجتماعي. أحبَّ مداعبة الأطفال الصّغار، فاعتبرها أسعد لحظاته، تّأقلم مع كل من حوله بسهولة، لم ينسَ جيرانه، التقى مع أبناء جيله فكان فرِحًا بلقائهم ومرحًا معهم، زار أقاربه، نَشّط ذاكرته معهم، فركضت ذكرياتهم في ساحة الماضي. البروفِسور إبراهيم، رغم المكانة المرموقة التي وصل إليها، لكنّه آثر البساطة والتواضع.

حافظ على عاداته وتقاليده الشّرقيّة، التي لم يتخلَّ عنها، فنقلها إلى ابنتيه نلي وليلى، رغم وجودهنّ في الولايات المتحدة، إلاّ أنّهما حافظتا على اللغة العربيّة، وزوجته لولو كانت لؤلؤة تتوهّج تفَهُّمًا ووعيًا، مُدبّرة حكيمة لأمور المنزل. بقي حافظًا لتاريخ شفاعمرو العظيم، فوثَّقه بشكلٍ بحثٍ علمي، من خلال إصدار كتابه الشّهير "شفاعمرو، فسطاط صلاح الدّين الأيّوبي".

لن أنسى تجمّعنا العائلي حوله، لنسمع منه حكاياته العلميّة أو الشّعبيّة المسلّية، فاعتبرته الحكواتي المثقّف، الذي سرَد لنا بأسلوبه الجميل والشيّق أجمل الحكايات، فيها جانب معرفيّ أو تثقيفي، فكان يروي لنا قصصًا طريفة حصلت معه، خلال جولاته العلميّة في دول العالم، التي كانت تدعوه ليُلقي المحاضرات في جامعاتها، انتشر اسمه عالميًّا من خلال أبحاثه وتجاربه واكتشافاته، التي اعتُمِدت كمُركّبٍ أساسي في تركيب بعض الأدوية، وأشهرها التي يستعملها ملايين البشر يوميًّا، لتخفيض نِسبة الكوليسترول في الدَّم.

كان يحب الموسيقى العربية، فأحبّ نوعيّة خاصة جدًّا من أغاني الفنان اللبناني والملتزم مارسيل خليفة، فأوكَلَ إليّ مهمّة البحث عنها، لكن لم أجِدها في مكتبتي الموسيقيّة، ولا حتّى في موقع يوتيوب، إلاّ النّادر منها، وهذه الأغاني تحكي واقع الإنسان العربي... حثّني على سماع أغاني المطرب الإيطالي أندريا بوتشِلّي. في إحدى المرّات زارني وأعطاني أشرطة كاسيت قديمة، تحتوي على تسجيلات بصوته من الأدب العربي، طلب منّي أن أحوّلها إلى ملفّات موسيقيّة رقميّة، خوفًا عليها من الاهتراء، فنفّذت طلبه، هذا دليل على أنه حاوية ثقافية ضخمة وشاملة.

إلى جانب انشغالاته العلميَّة، لكن بقي عشِقه الأكبر للغة العربية، فأتقنها صرفًا ونحوًا وأدبًا، فكان لُغوِيًّا بارعًا، فكنتُ أستمتّع كثيرًا بجلساته مع عمّي المرحوم، المربّي الفاضِل شفيق عزّام، عندما تناقشا في الأدب العربي، وتبادلا أبياتًا من الشّعر العربي القديم، تحدّثا بعمُّق في كافة المواضيع الثقافيّة والعلميّة، فكان الكتاب جليسهما وأنيسهما.

كتابه "دليل اللغة" المؤلّف من جزأين، بدأ في كتابته عمّه المرحوم نقولا الدُّر، وهو أحد مؤسّسي منظمة التحرير الفلسطينيّة، لكن وافته المنيّة قبل أن يُكمله، فأتمّ البروفيسور إبراهيم تأليفه... وهذا الكتاب يُعتبر شهادة تقديرٍ منه للغة العربية، التي خاف عليها من الإهمال، وخاف على الأجيال الصّاعدة من الاستهتار بقيمتها العالية وعظَمَتها الإبداعيّة.

ظلَّ البروفيسور إبراهيم يُبحِر في محيط كلمات ومعاني اللغة العربية، حتّى أصدر لاحقًا كتابه "أصول الكتابة الصّحيحة"، والذي يعتمد على معرفة معنى الكلمة وأصولها النّحويّة، دون الإسراف بالتّعمُّق أو التعليل، متجاوزًا الاستعمالات النّادرة. كنتُ محظوظًا أنّه أعطاني بعض الإرشادات المفيدة، في كيفيّة كتابة نصٍ قويٍّ دون اللجوء إلى التعقيد النّصّي، وعمِلتُ بها واكتشفت أنها ساعدتني في نصوصي المتنوّعة. عندما كان ينظُر إلى بعض كتاباتي، كانت نظرته مِجهريّة، تكتشف بواطن الضّعف في النّص، بمجرّد أن ينظر إليه، وكان يُعجَب باستعمالاتي الفنيّة للكلمات.

الدُّرر العلميّة الرائعة، التي سطعَت في أرجاء العالمَين الغربي والعربي، لم تُنِر انتباه مؤسّساتنا الثقافيّة بنور الوفاء لهذا الإنسان الشفاعمري العبقري، ولم تُفكّر يومًا للأسف أن تُكرّم إبراهيم الدُّر، أو تُقدّر إنجازاته. في أي مكان حول العالم، كان دائمًا يفتخر أنه ابن مدينة شفاعمرو التاريخيّة، إلاّ إدارات البلديات المتعاقبة لم تفتخر به كما يليق بشخصيّة عظيمة مثله، فقط بعض وسائل الإعلام المحليّة سلّطت الضوء عليه، فهو لم يبحث يومًا عن الشُّهرة أو الظُّهور الإعلامي، بل كانت الشُّهرة تلاحقه في كل مكان، يكفي أنه حظي بشهرة اجتماعية من أهل بلده، واعترافهم بأفضاله العِلمية على البشريّة كافة، بالنسبة له هذا أعظم تكريم ناله في حياته.