[x] اغلاق
الدين لله والأخوَّة لنا
23/8/2016 10:32

الدين لله والأخوَّة لنا

د. حاتم عيد خوري

إسمه عيسى فؤاد الياس الدهّان. وُلِد في طلعة شارع البرج في حيفا سنة 1924، بعد اخوين سابقين تُوفيا رضيعين، فنذرتْه امُّه قبيل ولادته، لكنيسة مار الياس القائمة على قمة الكرمل الغربية، وايضا لِ"مقام سيدنا الخَضِر" الكائن في المنحدرات الدنيا لهذا الجبل. ايفاء لنذرها هذا، قررت إم عيسى ان تُعمِّد وحيدَها في صحن كنيسة مار الياس وان تُطهّره ايضا، بجوار "مقام ىسيدنا الخضر" ، ولم يبق لابي عيسى إلا ان ينصاع لامرها، او ان "لا يكسر بخاطرها" على حدّ تعبيره. وهكذا نشأ عيسى حيفاويا خالصا من قمة راس الكرمل حتى أخمص قدمي هذا الجبل، المغتسَلتين ابدا بمياه البحر الابيض المتوسط.

تعلم عيسى في مدرسة الفرير القريبة من بيت والديه، وتخرج منها سنة 1942 متملكا من الانكليزية والفرنسية والعربية، ومفاخرا بخطه الجميل يوم كان الخط الجميل قيمةً تربويةً واجتماعية. كفاءاتُه العلمية ونباهتُه أهّلتْه للإنخراط  في سوق العمل والحصول على وظيفة في شركة بترول العراق، وهذا بدوره قد أعدَّهُ لزواج مبكر تمّت مراسيمُه الدينية سنة 1946 في "كتدرائية السيدة العذراء" في حارة الكنائس في حيفا.

عمَلُ عيسى وزواجُهُ لم يلهياه عن واجبه الوطني إزاء المخاطر الحقيقية التي بدت متربصةً بحيفا، فانخرط  في صفوف المقاومة واخذ يتمرن ليلا على استعمال السلاح والمشاركة الفعّالة في بعض عمليات الدفاع، ممّا جعله مُستهدَفا من قبل القوات اليهودية، وبالتالي مضطرا بضغط شديد من والديه وزوجته الحامل، الى مغادرة حيفا، عشية سقوطها في نيسان 1948، الى لبنان "ريثما تهدأ الاوضاع” كما كان يُقال آنذاك....

تلظى عيسى اشهرا طويلة، على نار الشوق لحيفا ولزوجته ولوالديه، لكنه عندما علم، عبْر الرسائل الصوتية في الاذاعة، بقدوم ابنتِه البكر وبقرار والديه وزوجته ان يُطلقوا عليها اسم "عَوْدة"، فَـقَـدَ صبرَه نهائيا وقرر ان يلحق فورا بقلبه الذي سبقه طائرا الى حيفا، حتى ولو عاد تسللا تحت جنح الظلام....

وصل عيسى الى بيته في حيفا بعد منتصف الليل. لكن قبل ان يكحّل عينيه برؤية وجه طفلته، وقبل ان يحتضن زوجتَه ويقبّل والديه، داهمتْه القواتُ الاسرائيلية، لتودِعه السجن لفترة ستة اشهر، ثم لتعيده الى الحدود اللبنانية، مطلقةً فوق راسه وابلا من زخات الرصاص. رغم هذه التجربة المريرة، كرّر عيسى محاولاته عدة مرات، لكنه لم ينجح في تحقيق العودة الى طفلته "عَودة" وامها وجديها ومدينتها. خيباتُ امله المتراكمةُ قضَت على أمله بالعودة، خصوصا بعد ان ألقت به السلطاتُ الاسرائيلية سنة 1952 على الحدود الاردنية قرب مدينة جنين، مؤكدةً له عدم جدوى محاولاته، وطالبةً منه الكفَّ عنها وإلا سيُعرّض نفسه لسجن طويل الامد، إن لم يكن لخطرٍ حقيقي يهدد حياته.

حاول عيسى ان يستقرّ في جنين، عسى ان يبقى قريبا من حيفا ، حتى ولو كان هذا القرب جغرافيا فقط. لكنه بعد خمس سنوات من وجوده في جنين ، وحصوله على الجنسية الاردنية وعمله المتواصل  في مدارس الأونروا(UNRWA)، ما لبث ان ادرك انه لن يلتقي، لاسفه الشديد، مع اسرته في حيفا، كما اكتشف أن لا مستقبل له في الاردن ، خصوصا بعد إقالة حكومة سليمان النابلسي الوطنية سنة 1957، فقرر السفر الى مصر والبقاء فيها بصورة مشروعة، ليعيش في ظل المشروع القومي ورائده الرئيس جمال عبد الناصر.

وصل عيسى الى القاهرة في اواخر سنة 1957. وجد عملا في مجال الترجمة والعلاقات العامة، فاكتشف حبّه لإسداء النصح للناس، وميوله نحو موضوع الاستشارة. لكنه كان يدرك في ذات الوقت، انه لا يستطيع ان يسوِّق نفسه في هذا المجال، إلا بإكتساب ثروةٍ علميةٍ في الموضوع، مغلفةٍ بهالةٍ دينية تحتضنُها بيئةٌ حاضنة مناسبة. لذا اخذ يكرّس كل وقته بعد العمل، لدراسة موضوع علم النفس الاستشاري وما يرتبط به ويمتُّ اليه بصلة من المواضيع الاخرى، كما ابتدأ بدراسة القرآن الكريم والسنة النبوية والحديث الشريف وقيم الدين الاسلامي بصورة عامة، فضلا عن اهتمامه ايضا بالوضع المتوقع في مدينة اسوان عشية افتتاح مشروع بناء السد العالي، من حيث استقطاب اعداد هائلة من المهندسين والحرفيين والعمال عموما وعائلاتهم من مصريين وغير مصريين من عرب واجانب....

إكتملت خطةُ عيسى بكافة تفاصيلها. أطلق لحيته وجهّز نفسه نهائيا لمغادرة القاهرة دون ان يُفصح عن وجهة سفره. إستقلَّ ليلا "قطار نوم القاهرة – اسوان". بعد سفرة طويلة على امتداد نحو 900 كيلومترٍ، وقبل الوصول الى محطة قطار اسوان، فتح عيسى شنطة ملابسه. تسربل بجلباب رجّالي يليق برجل دين مسلم، واعتمر عمامة ووضع في الجيب الوسطى لجلبابه مسبحة ذات 99 حبّة، كما وضع في الجيب العلوي رزمةً صغيرة من البطاقات الشخصية وقد كُتب عليها " الشيخ عيسى فؤاد الدهان- مختصٌّ في فض الخلافات وجسر العلاقات وإسداء النصح والمشورة".

إستقر "الشيخ" عيسى في احد فنادق اسوان، واستاجر مكتبا اسماه  "عيادة الشيخ عيسى" كما باشر ببناء شبكة علاقاته كرافعة لتسويق نفسه. ذلاقةُ لسانه وسرعةُ بديهيته ولطفُ معشره وسعة اطلاعه وصدقُ مواعيده وهيبة طلته وقد زادها الجلباب والعمامة واللحية والمسبحة  وقارا، قد فَتحت امامه الابوابَ الموصدة، وجَعلت منه في غضون سنتين محجّة يسعى اليها الراغبون.

ذات يوم طرقت بابَ "عيادته"، طلبا للمساعدة، سيدةٌ  تبدو في الثلاثين من عمرها، ملامحُها ذكّرته بزوجته في حيفا. قالت له انها فلسطينية غزّيةُ الاصل، كانت قد درست في جامعة القاهرة وتعرفت هناك على مهندس مصري، وانهما تزوجا قبل خمس سنوات. لم تُنجب منه، لكنه قد ملأ الدنيا عليها بلطفه واخلاصه ومحبته. إنتقلت معه الى اسوان قبل نحو سنة، بعد ان حصل على عقد عمل، مهندسا في إطار مشروع بناء السد العالي. هنا في اسوان تنكر لها القدر، فقُتل زوجُها في حادث طرق، في الايام الاولى لعمله في السدّ. موتُ زوجها وعدمُ توفر وصيّة من قبَلِه، أثار جشع بعض اقاربِه  الطامعين بميراثه، بادعاءٍ كاذبٍ ان زواجه من تلك السيدة الفلسطينية لم يكن شرعيا...

تدخل "الشيخ" عيسى في الامر، واستطاع بالكلمة الطيبة والحديثِ المقنع، تسويةَ الخلاف بين الاطراف وخلقَ اجواء ودّيّة بينهم، دون اللجوء الى المحاكم المدنية و/أو الشرعية. فارتفع منسوبُ ثقة هذه السيدة ب"الشيخ" عيسى، واصبح مرجعا لها في كل كبيرة وصغيرة، ولذا لم تتردد في قبول عرضه ، عندما طلب يدها لزواجٍ على سُنَّة الله ورسوله.

تحقق هذا الزواج وإكتسب "شرعيتَه" بكتابٍ كُتِب في مطلع سنة 1961، وفي اواخرذات السنة تُوّج هذا الزواج بمولودة أعِدَّ لها اسم هبة. لكن المضاعفات التي حدثت للام اثناء الولادة والتي أدّت الى استئصال رحمها، قد جعلت الوالدين يُطلقان على مولودتهما اسم "وحيدة". بَعثت  وحيدة في بيت "الشيخ" عيسى نورا ما لبث ان خفَتَ وهي في سن العاشرة، وذلك عندما توفيت والدتها نتيجة مرض عضال لم يمهلها طويلا. غيابُ والدتِها هزّ اركان طفولتها، لكنها ما لبثت ان استعادت إتزانها بفضل والدها "الشيخ" عيسى الذي تجنّد لملء الفراغ الكبيرالذي تركته زوجته، فافاض على ابنته حبًّا جمّا وحنانا دافقا، واصبح بالنسبة لها الاب الداعم ماديا ومعنويا، والام  المدلَّلة والاخ المحب والاخت الحانية.

أنهت وحيدة دراستَها الابتدائية والثانوية بنجاح باهر إكتملت به شخصيتُها القوية ذات الحضور المميز، واخذت تتطلع نحو متابعة دراستها في جامعة اسوان. لكنَّ القدر كان يقف لها بالمرصاد، ليعصف بها مرة اخرى، وذلك عندما تبين لها ان والدها مريض بسرطان الرئة، ربما لإدمانه على التدخين بنَهَمٍ شديد بعد وفاة والدتها.

تراجعت صحة "الشيخ " عيسى، واخذت تتدهور بسرعة. ادرك بألمٍ شديدٍ، ان اجله يقترب، لكن ما  آلمَهُ أكثر هو انه سيترك كريمتَه "وحيدة" وحيدةً فعلا، فلا أب ولا أم  ولا  أخ  ولا أخت ولا  أقرباء، باستثناء صديقتيها القريبتين حنان وليلى. قرر الشيخ عيسى ان يبوح لإبنته بسرّهِ الدفين بكامل تفاصيله.... ذُهلت وحيدة مما سمعته، لكنّها تمالكت نفسَها، فاحتفظت بالسرّ وانصرفت بكل جوارحها لرعاية والدها في ايامه الاخيرة، والوقوف الى جانبه لحظة وفاته، والاهتمام بترتيب مراسيم الدفن وبيت العزاء....بالرغم من هذه الضغوطات والفقدان الذي تلاها، لم تنسَ حديثَ والدِها قبيل وفاته، ولم يصرفها او يثنها شيءٌ عن قرارها الصارم بالبحث عن اختها "عودة" الحيفاوية، لكنه (اي فقدان والدها)  جعلها  تبتعد حتى عن صديقتيها حنان وليلى، وبدت كأنها تفرض على نفسها عزلةً طال امدُها او أنها تعاني من اكتئاب تسلَّطَ عليها، الامر الذي اقلق صديقتيها وجعلهما يعرضان عليها، السفرَ سوية في اجازة استجمام الى جزيرة قبرص لبضعة ايام. معارضةُ "وحيدة" تلاشت امام ضغط صديقتيها اللتين تولّتا ترتيب السفر والحجز في فندق هيلتون نيقوسيا...

وصلت وحيدة وصديقتاها الى الفندق في ساعات ما بعد الظهر. تسلمن الغرف واردْن التوجه الى المصعد، مرورا بردهة الفندق التي لم تكن مكتظة. لاحظن سيدةً شابة شديدة الشبه ب"وحيدة" كانت تجلس، مع زوجها وطفليها كما يبدو، على اريكة. ابتسمت حنان وليلى قائلتين "يخلق من الشبه اربعين"، بينما وحيدة شعرت برفّةٍ في قلبها. وصلن الى المصعد واتفقن على التلاقي في ردهة الفندق، بعد ساعتين.

دخلت وحيدة الى غرفتها. فتحت حقيبتَها. تناولت منهاعلى عجل، مجلةً تُعنى بشؤون الازياء، ثم قفلت راجعةً الى ردهة الفندق. لاحظت ان تلك السيدة التي تشبهها، ما زالت في موقعها، إنما هذه المرة كانت تجلس لوحدها. إتخذت وحيدة مقعدا مقابلا على بعد بضعة أمتار منها ، وتظاهرت بتصفح المجلة. رأت بطرف عينها تلكَ السيدةَ تمشي نحوها ثم تقف امامها قائلة  لها: " إسْمَحيْلي يا صبية، قلبي واللهِ رَشَقْلِك، لانّ طلتك ذكّرتني بنفسي قبل نحو عشر سنوات. انا اسمي تحريرالقنواتي من حيفا، وبكون مبسوطة اتعرف عليكِ". شعرت وحيدة بخيبة أمل ولّدت غصّةً في قلبها، لان الشبه بينها وبين تحرير، جعلها تتوقع او على الاقل تتمنى ان تسمع اسم  عودة الدهان التي تبحث عنها، ومع ذلك فإن كلمة حيفا خلقت نشوةً في نفسها وبعثت آملا طالما راودها بالتعرف يوما على اختها الحيفاوية.

 إبتسمت وحيدة رغم انفعالها الشديد، مجيبةً بلهجتها المصرية اللطيفة : "تشرفنا يا مدام تحرير. انا اسمي وحيدة الدهان من اسوان". قالت تحرير باستغراب: " الدهان؟!!! أنا ايضا من عائلة الدهان، انا ابنة عيسى فؤاد الدهان من حيفا، ومتزوجة من الدكتور مالك القنواتي". شعرت وحيدة ان الارض تميد بها، وانها قد تكون امام مفاجئة تفوق كل التوقعات والاحتمالات. لكنها ما لبثت ان تمالكت نفسها، قائلة لتحرير بلهجة مشوبة بتحدٍّ: "مش معقول يا ست تحرير!! لان لعيسى فؤاد الدهان في حيفا، ابنة وحيدة اسمها عودة وليس تحرير". هذه المعلومة المتحدية صدمت تحرير، لكنها سرعان ما استفاقت، لتقول دفاعا عن مصداقيتها: " امي وجدّايا اسموني عودة تيمُّنا بعودة والدي الى حيفا، التي لم تتحقق بسبب موقف السلطات الاسرائيلية، فغيّروا اسمي الى تحرير عسى "التحرير" يُحقِّق لوالدي عودةً مرجوةً لم تُحقَّق". سكتت تحرير لحظة، كي تقول لوحيدة باستغراب شديد جدا: "لكن من اين لكِ يا وحيدة هذه المعلومات عن والدي؟".

كان التوتر قد شلّ قدرة وحيدة عن النطق، لكنها تذكرت  جوازَ سفر والدها الاردني، الذي دأبت على الاحتفاظ به في جزدانها. اخرجت الجوازَ وقدمتْه مفتوحا الى تحرير. بدت تحرير منفعلةً بل منذهلةً جدا وهي تقرأ اسم عيسى فؤاد الدهان الحيفاوي المولد، واخذت تُحدّق في صورته التي في الجواز. تذكرت تحرير على الفور انها تحمل في جزدانها صورة شخصية لوالدها الذي لم تعرفه. اخذت تقارن بين الصورتين فانكشف لها التطابق الكامل. تجمّد الكلامُ على شفتيّ تحرير  رغم تراقصهما. حانت منها نظرة الى وجه وحيدة، فرأت كلٌّ منهما الدموعَ المتزاحمة في مآقي عيني الاخرى، واصبح "الحكي بينهما من دون حكي"، وانهالت كلٌّ منهما على عنق الاخرى تقبيلا وهي تصرخ من اعماقها "خيتا حبيبتي".....

صوتُ بكائهما الصارخ، قد غطّى على الموسيقى الكلاسيكية التي كان جوّ ردهة فندق هيلتون نيقوسيا، يعبق بها، كما لفت بكاؤهما انتباهَ مَنْ حولَهما من نزلاء الفندق بما في ذلك، موظف الاستقبال اللبنانيّ الاصل، الذي سارع بالقدوم اليهما، لإستجلاء الموقف ظنّا منه بان هاتين السيدتين قد وقعتا في مصيبة او تعرضتا لحادث اعتداء. لكنه عندما فهم الامر، رفض تصديق انهما اختان، لانه راى مصحفا معلقا في عنقِ وحيدة، وصليبا في عنق تحرير. انتبهت وحيدة لذلك، فسارعت الى احتضان عنق اختها تحرير، بساعدِ يدِها اليمنى كما جعلت كفَّ ذات اليد تطبق على الصليب المعلق في عنق تحرير، بينما قبضت بكفها اليسرى على مصحفها هي، قائلة بتحدٍّ، للموظف ايّاه، وهي تهزّ قبضيتها المحتضنتين للمصحف وللصليب: "نعم نحن أختان، لان الدين لله والأخوَّة لنا".

Hatimkhoury1@gmail.com

26/8/2016