[x] اغلاق
الذّاكرة الأثريّة المنسيَّة
8/12/2016 10:46

الذّاكرة الأثريّة المنسيَّة

بقلم: مارون سامي عزّام

الجميع يحب أن يرى شفاعمرو، تهتم بحضارتها الأثريّة الغنيّة بالأحداث التاريخيّة، يختبئ فيها أمجاد أجدادنا التي نتوق إليها، أليس من المفروض بعد أن وثّق بعض الباحثين الشّفاعمريين، وعلى رأسهم الأستاذ الياس جبّور، الأحداث التاريخيّة التي دارت حول هذه الأماكن الأثريّة في كتبٍ قَيّمة، أن تُتَمّم إدارة البلدية الخائبة واجبها تجاه الأجيال الشّابة الصّاعدة، من خلال حفاظها وصيانتها لهذه الأماكن؟! أم أنها تحافظ عليها خطابيًّا، بترميم كلمات ردّدتها مرارًا الإدارات السّابقة، لكن بلا فاعليّة! فهذه الأماكن تعاني من إهمال مُزمن، وبالأخص السّوق القديم الشّهير والمهجور وغيرها.

نحن نتمنّى أن تَظهر شفاعمرو على الخريطة السّياحيّة ليس فقط الدّاخليّة أو الإسرائيليّة، بل العالميّة أيضًا، لنَفرَح بقدوم السّائحين يومًا ما!... وكلنا نفتخر بالجذور التاريخية لشفاعمرو الممتدّة في كل زاوية من زوايا هذه المدينة... ولكن للأسف ما الفائدة من كل هذا الحب والانتماء لشفاعمرو، طالما أن انتماءنا لحضارتنا مُغيّبًا عن أم الجميع وهي إدارة بلديتنا التي تحاول جاهدةً إعادة ترميم ائتلافها، فكيف ستستطيع إذًا، إعادة ترميم السّوق وغيره؟! رغم أنّنا نعتبرها حاضنة لأمننا وأماننا، الرّاعية لمصالحنا، وجدناها تحتضن مصالحها الشخصية... ترعى المقربون منها!!

ذاكرتنا الجماعيّة إلى الآن تتذكّر ذلك السّوق الذي جمَع أهل البلد وأهالي القرى المجاورة، ويُشبه إلى حدٍّ ما المجمّعات التجارية العصرية التي نؤمُّ إليها اليوم، لكن بفارق أساسي وهام للغاية، وهو عندما كنّا نذهب إلى السوق القديم، شعرنا أننا بين أهلنا وأحبّائنا، كانت الأُلفة حاضرة في أحاديث أهل البلد، بينما المجمّعات نزورها كالأغراب، لا نعرف التجّار، فقط لتمضية الوقت لا أكثر!!   

كان السّوق القديم، النَّبَض الاقتصادي للمدينة الذي لم يتوقّف نشاطه التجاري عن الخفقان، واليوم للأسف الشّديد، قد تحوّل إلى زقاق خاوٍ مُعتم، يسرح فيه العابثون والجانحون، الذين اتخذوه مأوى لتسيّبهم ولمآربهم كما أخبرني بعض الغيورين على بلدهم. لم نعُد نشعُر بوجود هذا السّوق العريق، أصبح غريبًا عنّا، بعد أن كنّا نشعُر بقيمته من خلال إقامة السّوق الميلادي الذي دبّ فيه الحياة لفترة معيّنة، على أمل أن يُفتَح مُجدّدًا...

... حتّى هذا الأمل ضاع بين أكوام التطمينات الكلامية، إلى أن اندثَر في أرض اللامبالاة، وانطفأت الأضواء الإعلاميّة التي سُلّطت على السّوق، أثناء موسم عيد الميلاد المجيد، وابتعد عنه الجمهور، كما بقيَت أبوابه مقفلة، تحتاج إلى مفاتيح العمَل والهِمَّة والإصرار، وهذه الأمور موجودة بأيدي الشّبّان المستعدين دائمًا للتضحية بوقتهم، من أجل إعادة فتح محلاّت السّوق، لنُحيي ذكرياتنا، لكن أين خطّة العمَل؟!!

تآكلت قيمة السوق الأثريّة، بسبب نشوب خلافات كبيرة بين المسئولين في البلدية والمقاولين، قبل عام وأكثر على إعادة ترميمه، ممّا أدى إلى وقف المشروع، ببساطة أرادت البلدية أن تجعل من مشروع إعادة إعمار بيروت... عفوًا السّوق، رداءً تجاريًا، لتتقاسمه فيما بينها. من المواقع الأثريّة الجميلة، هي معصرة عائلة الدُّر القديمة التي عادت لتأخذ دورًا موسميًّا، وفتحت أبوابها للزّوار، ليس بشكلٍ دائم، فقط خلال إقامة مهرجان "الزّيت والزّيتون"، السنوي، مع بداية موسم قطف الزّيتون.

حظيت هذه المعصرة بتغطية إعلاميّة خليويّة، بادر إليها مشكورًا الصحفي أسعد تلحمي، من خلال صفحته الخاصّة على موقع الفيسبوك، وأجرى لقاءً صحفيًّا قصيرًا مصوَّرًا مع السَّيِّدة الفاضلة نهاد دُر (أم رامز)، التي شرحت له نبذة قصيرة عن تاريخ المعصرة، ذكّرتني بتلك الأيام التي تشتاق ذاكرتي لها، أدار المعصرة زوجها الفاضل المرحوم يوسف دُر والخال باسم دُر. كانت مسرورة جدًّا لاهتمام الناس، وشرحت بتأثر عن محتوياتها الدّاخليّة التي ما زالت مكانها، كما تُرِكَت منذ 16 عامًا، آمل أن تتحوّل المعصرة إلى مزارٍ سياحي، تتبنّاه وزارة السّياحة، حفاظًا على ذاكرتنا الأثريّة.

بما أنّني أتحدّث عن ترميم المواقع الأثرية، لا بُدّ لي أن أذكُر في هذا المقال قُدس الأب اندراوس بحّوث، لأقدّم له جزيل شكري العميق، لحفاظه على المعالم الدّاخلية والخارجية لكنيسة الرّوم الملْكِيين الكاثوليك، عندما قام بحملة ترميم شاملة لها، بمساعدة أهل الخير من مهنيين وعمّال. إن ملامح هذه الكنيسة الأثرية الضخمة لم تتغيّر من الدّاخل بتاتًا، بل تمّ صيانتها بشكل أبهى، بألوان تليق ببيت الله، الحجارة الخارجيّة أُعيد تنظيفها، مع الحفاظ على رونقها المميّز، يا حبّذا لو تتمثّل بلدية الفراغ الإداري، بعمل الكاهن اندراوس، الذي كان سبّاقًا بالقيام بمثل هذا المشروع الضروري، كتقدير لرعيّته التي يخدمها دينيًّا واجتماعيًّا، بما يُرضي رسالته الكهنوتيّة.

الإعلام الإسرائيلي لا يؤمِن بتاتًا بوجود سياحة أثريّة في وسطنا العربي وخاصّة في شفاعمرو، لأن قِسم السياحة في البلديّة لا يعمل، لا يُنسّق مع وزرة السياحة، غير قادر على تمويل حملة ترميم وتنظيف هذه المواقع التاريخيّة، بينما صحيفة هآرتس، عدد يوم الجمعة، الصّادر بتاريخ 25/11/2016 نشَرَت في ملحقها الأسبوعي تقريرًا جميلاً، حول الطّابع القروي لشفاعمرو، ركّز على نساء تُصنّعن بأيديهن الأكلات التقليدية الشّعبية التي كادت تختفي، وهي دليل على أنها امتداد لتاريخ هذه البلدة، وجزء من إرث أجدادنا الزّراعي الذي بالكاد نحافظ عليه.

يبدو أننا فقط من خلال إحياء مناسبات أو مهرجانات، نُنعش ذاكرتنا الأثريّة المنسيّة، حتّى أصبحنا نُلقي الضّوء عليها بصورة سنويّة، كي نشد حب استطلاع الأجيال الحديثة، لماضي آبائهم وأجدادهم، لأن هذه الآثار الثّمينة هي فخرٌ أزلي لكل مواطن شفاعمري، فإذا لم نُحسِن صيانتها... ستكون ضربة قاضية لتاريخ هذه المدينة العريقة، سنفقد الذّاكرة الوطنيّة التي ناضل رجالاتنا من أجلها، لذلك لا تسمحوا لزلزال النسيان يبتلع هذه الذّاكرة الأثريّة، في جوف اليأس، ولكن ربّما إدارة البلدية قد تتعقّل ذات يوم، وتنتبه للتغيير السلبي الذي تُحدِثُه!!