فكرة أن الحيّز العام، تحت مسميات مختلفة، المصلحة العامة، مصلحة المجتمع... إلخ، هو مسؤولية خاصة أيضًا، أي أنه ليس فقط مسؤولية القيادات والأحزاب والهيئات التمثيلية، بل هو مسؤولية الأفراد أيضًا، وأنَّ مشاركة الفرد في الاهتمام والانخراط بقضايا حيّه أو مدينته أو شعبه، هي حلقة ضرورية في نجاح أي نضال، هي فكرة متداولة أو على الأقل قريبة من المنطق الشعبي. ربما ليس كثيرًا، أستطيع الآن أن أتحفظ، أو حتى أن أغيّر رأيي، أجل سأغير رأيي. وإليكم افتتاحية أخرى: النضال العام يقع فوق كتف الهيئات العامة، تمثيلية كانت أو غير تمثيلية، ولم نطوّر في حياتنا السياسية فكرة المواطنة الفاعلة، أو ما يقابلها في مجال النشاط الفردي ضمن حيزنا القومي لمجتمعنا العربي في البلاد.
ورغم أنني غيرت رأيي في أقل من ثانية، إلا أنَّ هذا ليس موضوع المقال. ومع أنَّ رأيي هو ما عبرت عنه في نهاية المقدمة، إلا أننّي ما زلت أحتاج لبدايتها لأقول إنَّ مفهومنا غير المتطور لكون الحيّز العام مسؤولية فردية أيضًا، هو مع ذلك مفهوم قائم بشكل أو بآخر “ويبقى” علينا تطوير أدواته وممارساته.
لكن المصيبة أو الطامة، هي غياب الوجه المقابل لهذا المفهوم، ألا وهو مسؤوليتنا العامة تجاه الإنتهاكات الحاصلة في حيّزنا الخاص. أي حرص هيئاتنا التمثيلية العامة، بأحزابها وقيادييها ولجنة متابعتها، وسلطاتها المحلية، على ضمان الأمن اليومي لحياة أفرادها في حيزهم الخاص وليس فقط العام.
وقضية العنف والأمن اليومي لحياتنا الفردية، طفت على الساحة السياسية مؤخرًا، وعلى أجندة الأحزاب ولجنة المتابعة، فقط بسبب استكانتنا إلى أننا نتعامل مع قضايا الحيز العام. فظاهرة العنف والقتل التي تفشت مؤخرًا تتألف من أحداث غالبًا ما حدثت بين قبائل، عفوًا، بين عائلات أو طوائف، أو بين طلاب مدارس، وهي غالبًا ما تحدث في الأماكن العامة، وهي ليست من نوعية القضايا التي نتعامل معها كقضايا عائلية خاصة.
ولكي لا أَفهم خطأ، ليست علاقة القربى بين الأفراد المتورطين في العنف هي التي تحكم على ما إذا كان الحدث يتبع قسم „الحيّز العام” „خصنا” أو قسم „الحيز الخاص” فـ „ما خصنا”، وليس أيضا مكان حدوث الجريمة، بل عامل واحد يحكم إذا ما كان الحدث هو حيز خاص أو عام: المرأة.
ليس القتل، وليس العنف، وليس حقيقة أنَّ هنالك جريمة ارتكبت، وليس حقيقة أن هنالك روحًا زهقت، أو كرامة أهينت، أو عنف مورس، ليس القيمة التي انتهكت، هي التي تحدد „خصنا أو „ما خصنا”، بل وجود المرأة. إذا وجدت ف”ما خصنا”، وإذا لم توجد عندها „خصنا”.
وأين توجد المرأة؟ هل تكون بين صفوف الطوشات؟ بين „جنود” العنف القبلي بين العائلات؟ بين صفوف العنف القبلي بين الطوائف؟ هل تحمل طالبة مدرسة سكينًا أو مسدسًا؟
وأسبق على الأصوات التي أخالها تقول: أنَّها الأم في البيت التي تحرض على العنف، وأقترح هنا للمصر على الأدعاء أن نتحول جميعنا إلى „نساء” أي إلى محرّضين على العنف، دون ممارسته.
العنف ضد المرأة هو عنف قائم في „الحيز الخاص”، أو بكلماتٍ أدق، حيثما توجد المرأة يوجد „الحيّز الخاص”، حيثما توجد المرأة توجد „المنطقة المحرمة”.
ولا نستطيع إلا أنّ نخلص إلى نتيجة مفادها أننّا لا نثور لأجل القيمة التي انتهكت، بل لأجل الشخص الذي انتهكت كرامته أو حقه في الحياة.
وإذا أردنا لغة أكثر شفافية، فعلينا أن نقول: نحن لا نعتبر „العنف” جزءًا من مسؤوليتنا العامة، بل نحن نعتبر „الرجل” جزءًا من مسؤوليتنا العامة.
وعملية النفاق، لا تنتهي هنا، بل تبدأ هنا. والازدواجية لا تنتهي هنا، بل تبدأ هنا، لأننا في الوقت الذي نعتبر فيه المرأة „حيزا خاصا” أي محرما لا نتدخل في كل ما يتعلق بالعنف ضدها وبعلاقات القوة بينها وبين زوجها أو بينها وبين أبيها أو أخيها، نقوم بعملية اقتحام كامل لحيزها الخاص فيما يتعلق بحرياتها.
نحن نختار ألا نكون مسؤولين عن العنف ضدها، فهذا „حيز خاص”، أما ما يتعلق باختيارها لشريك حياتها –لب الخصوصية، أحد مقدسات الخصوصية- أو فيما تلبسه، أو في طريقة جلوسها، أو في طريقة ضحكها، أو في نهج حياتها ، يتحول „الحيز الخاص” أو السوبر خاص، فجأة لحيز عام، عام تمامًا، عام حتى النهاية، عام بحيث يستطيع أي عابر في الشارع أن يحدّد حسن أو سوء سير المرأة.
إذا، نحن أمام مجتمع يعتبرني حيّزًا خاصا عندما أقتل، أو أهان، أو أظلم، ويعتبرني حيزا عامًا، بل حيّزا منتهكًا، عندما أريد اختيار نهج حياتي، وتسمى الياء في حياتي ياء الملكية.
نحن أمام مجتمع، يعتبر قتل المرأة وتعنيفها „خصوصية”، ويعتبر حرياتها الشخصية حيّزًا عاما.
والاقتراح الذي أريد أن أتقدم به في النهاية، هو اقتراح بسيط: حريات المرأة فيما يتعلق بحياتها الخاصة، هو شأنها، وحقوق المرأة فيما يتعلق بمساواتها وكرامتها وحقها في الحياة وفي العمل وفي مشاركة الرجل في قيادة مجتمعهما، هي مسؤولية الأحزاب والقيادات والأفراد، وأرجو من الجميع عدم الخلط.