بينما يتجدد الجدل الفلسطيني العربي حول قرار تقسيم فلسطين كما في كل عام، فإن الحقيقة الكبيرة الساطعة التي نوثقها ونحن اليوم أمام الذكرى الثانية والستين للقرار الذي اتخذ في التاسع والعشرين من تشرين ثاني/1947 تتمثل (وهنا نعيد نشر ما كتبناه مرارا في هذه المناسبة للتذكير) في أن التنظيمات والدولة الصهيونية قامت وما تزال تواصل تدمير وشطب عروبة فلسطين تاريخا وحضارة وتراثا، كما قامت وما تزال تواصل تهجير الشعب الفلسطيني وتهويد أرضه ووطنه وتحويله إلى "وطن يهودي" والى "دولة يهودية نقية" يسعون في هذه الأيام باستماتة من اجل ابتزاز الشرعيات الفلسطينية والعربية لها..!، بل إنهم يشنون هجوما استراتيجيا شاملا بهدف شطب فلسطين بكل ملفاتها وعناوينها إلى الأبد...!
ولم يعد سرا أن تلك الدولة اقترفت أبشع أشكال التطهير العرقي، وقامت بتهديم المكان العربي على امتداد مساحة فلسطين، فدمرت ومحت نحو ستمائة قرية فلسطينية ومنها على رؤوس ساكنيها، كما دمرت العديد من الأماكن العربية المقدسة في فلسطين، بينما قامت بتهجير أهل الوطن والتاريخ والحضارة بفعل المخططات الاستعمارية وبقوة "التطهير العرقي" البشع وفي ظل حالة من الأوضاع العربية التي تعجز مفردات القاموس السياسي عن وصفها...!
كان من المفترض وفق قرار التقسيم على ما فيه من ظلم وسطو على معظم الوطن الفلسطيني، أن يعطي الشعب الفلسطيني نحو 44% من فلسطين ، لتقام الدولة الفلسطينية عليها، فما الذي حدث...؟!
ومن يتحمل مسؤولية ضياع فلسطين...؟!
...ومسؤولية عدم إقامة الدولة الفلسطينية....؟!
وهل تضيع الحقوق والأوطان هكذا مع التقادم...؟!
أم أنها يجب أن تعود مركبة...؟!
ثم أين الخريطة الجغرافية والسياسية والديموغرافية في فلسطين اليوم بعد اثنين وستين عاما على ذلك القرار التقسيمي...؟!.
نعود هنا مرة أخرى الى احدث المعطيات حول الميزان الجيو ديموغرافي في فلسطين المحتلة لنذكر:
انه "منذ العام 1948 أقامت إسرائيل أكثر من 700 تجمع سكاني (بين مدينة وبلدة )يهودي دون أن يقام ولو تجمع عربي واحد ...!
وقال الكاتب الإسرائيلي المعروف "عوزي بنزيمان" في هآرتس العبرية: "إن عرب إسرائيل الذين يشكلون 18 بالمئة من السكان اليوم يشغلون فقط 2,4 بالمئة فقط من الأرض، والمساحة المخصصة لليهودي اكبر من تلك المخصصة للعربي بثمانية إضعاف"؟، وأضاف "أن العرب في الجليل يشكلون %72 من السكان ولكنهم لا يشغلون سوى %16 فقط من الأراضي هناك" مشيرا إلى "انه قبل قيام إسرائيل كانت الأراضي العامة اقل من %10 أما اليوم فقد أصبحت %93 حيث وضعت الدولة يدها على الأراضي العربية بأربع طرق –لا مجال لذكرها هنا.
تفتح هذه المعطيات التي يوثقها لنا بنزيمان ملف الميزان الجيوديموغرافي في فلسطين، وكيف كان هذا الميزان قبل قيام تلك الدولة الصهيونية وكيف أصبح اليوم .....؟!
كما تفتح أمامنا ملف التهجير والتهويد الشامل لفلسطين على أيدي الاحتلال الصهيوني ....؟!.
وفي هذا السياق يمكن القول إن الهجوم الصهيوني على فلسطين يحمل كل عناوين الاغتصاب والمجازر والاقتلاع والترحيل والتهويد وإلغاء الآخر العربي الفلسطيني تماما...!
وحسب المشاريع والنوايا المقروءة لدولة الاحتلال وبلدوزرها الاستيطاني، فان هذا الهجوم الصهيوني لم ولن يتوقف أبدا، وهذا الاستخلاص ليس اجتهادا سياسيا أو فكريا تحت الجدل، وإنما هو حقيقة كبيرة راسخة تتكرس على الأرض مع مرور كل ساعة من ساعات الاحتلال، ومع تواصل عمل بلدوزرات الاستيطان والجدران على الأرض، وهي حقيقة معززة مدعمة بكم هائل من الوثائق والمعطيات والوقائع الموثقة الملموسة..
فبالنسبة لفلسطين المحتلة 1948 على سبيل المثال وهي عنوان النكبة والتهجير وتهويد المكان الفلسطيني فتؤكد كل التقارير والدراسات العربية والعبرية على "أن الحركة الصهيونية مجسدة بدولة إسرائيل تواصل "عبرنة" و"تهويد" أكثر من 8400 اسم عربي لمواقع جغرافية وتاريخية".
وحسب كتاب "المواقع الجغرافية في فلسطين - الأسماء العربية والتسميات العبرية" وهو من تأليف الدكتور شكري عراف وصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، فلم يكن في فلسطين حتى غزو الصهيونية لها سوى 50 اسما عبريا فقط، وان التوراة اليهودية لا تشمل بالأصل سوى 550 اسما لأمكنة مختلفة في فلسطين وهي في الأصل أسماء كنعانية وبادر الصهاينة إلى تحوير الأسماء الأصلية أو وضع أسماء عبرية على المواقع الفلسطينية، وهكذا تحولت "بئر السبع " مثلا إلى "بئير شيبع" وطبريا إلى "طبيريا" والخضيرة الى "حديرة" والمطلة إلى "مطولة" وصفورية إلى "تسيبوري" وعكا إلى "عكو" وهكذا.
ويتحدث الكتاب عن أن "الصهيونية غيرت وهودت 90% من أسماء المواقع في فلسطين".
وليس ذلك فحسب، فدولة الاحتلال تواصل من جهة أولى مخططات تهويد ما تبقى من المواقع والأراضي الفلسطينية في فلسطين 1948 سواء في النقب أو الجليل المحتلين ، بينما تشن من جهة ثانية هجوما تهويديا استراتيجيا أيضا على المواقع والأراضي العربية في الضفة الغربية ويتركز هذا الهجوم إلى حد كبير على مدينتي القدس والخليل وقد امتد في الآونة الأخيرة إلى منطقة الأغوار الاستراتيجية.
ولكن- دولة الاحتلال لا تكتفي بتهويد الجغرافيا والتاريخ وإنما تخطط وتبيت وتسعى لاقتلاع وترحيل من تبقى من أهل فلسطين بوسائل مختلفة، أو تسعى لإلغاء وجودهم تاريخيا ووطنيا وسياسيا وحقوقيا وحشرهم في إطار كانتونات ومعازل عنصرية هي في الصميم معسكرات اعتقال ضخمة قد يطلق عليها اسم "دولة أو دويلة فلسطين" أو "كيان فلسطيني" أو ربما تبقى بسقف "الحكم الذاتي الموسع".
وبيت القصيد هنا في هذا الصدد أن فلسطين من البحر إلى النهر تحت مخالب الاغتصاب والتهويد والاقتلاع والترحيل، وهذه العملية تجري مع بالغ الحزن والقهر تحت مظلة "عملية السلام"والمؤتمرات وأقربها مؤتمر انابوليس تارة، أو تحت غبار حرب الاجتياحات والاغتيالات والتدمير والجدران طورا، وذلك على مرأى من العالم العربي والمجتمع الدولي.
ولذلك فانه لمن بالغ الدهشة الحديث أحيانا عن "سلام عادل وشامل ودائم"، والأغرب التمسك العربي بالنواجذ على خيار المفاوضات وخارطة الطريق على وقع المجازر وبناء المستعمرات والجدران الاغتصابية التهويدية.
وكبرى الكبائر العربية هنا أن تفتح الدول العربية أبوابها لقادة وجنرالات الاحتلال وجرائم الحرب، هكذا مجانا ودون حتى أي التزام إسرائيلي ولو على الورق بوقف المستعمرات والجدران..!
فنحن في الحقيقة أمام سلام إرهابي على الطريقة البن غوريونية أو البيغنية أو الشاميرية أو الرابينية أو الشارونية أو الباراكية او النتانياهوية أو الاولمرتية كما هو حاصل اليوم ...