ما زال التضامن من نصيب غزة، إعادة إعمارها ليس على الأجندة، ليس بشكل جدي على الأقل. بعد الحرب بشهور بدأ الحديث عن إعادة إعمار غزة، وبما أن كل شيء قد دمر، وسلب ونهب، وقتل جنود الاحتلال ما استطاعوه دون أدنى حسابات، فإن ما احتاجته غزة فعلا هو إعادة إحياء وليس إعادة إعمار.
مليون ونصف فلسطيني يعيشون على ربع مساحة مدينة نيويورك. وقدرت ميزانية إعادة الإعمار، أو بالأحرى فقط إصلاح ما هدمته الحرب لأن غزة المحاصرة كانت مدمرة أيضا قبل الحرب عليها، قدر بمليارد شاقل، وبـ10 مليارد لإعادة إحياء الاقتصاد والسياحة فيها.
الدول العربية أعلنت في اجتماعها في قطر، ومن ثم في الكويت عن تجنيد ملياردين من الدولارات، الاتحاد الأوروبي أعلن أيضا عن دعمه، لكنه اشترط ذلك برفض التعامل مع حماس! وعن هذا قيل أنه إذا كانت الحرب هي السياسة بوسائل أخرى، فإن إعادة إعمار غزة هي جزء من الحرب عليها بوسائل أخرى.
ووفق هذه المعادلة الغربية-العربية لم يخط مخطط إعادة إعمار غزة خطوات تذكر، على خلاف إعادة إعمار الجنوب اللبناني، حيث لم تستطع لا الحكومة اللبنانية ولا الغرب ولا الدول العربية حصاره سياسيا بعد تدميره، كما حاصروا سياسيا الجنوب الفلسطيني بعد تدميره.
المعادلة الغربية-الإسرائيلية لإحداث انفراج ليس فقط في عملية إعادة إعمار غزة، بل في مجمل الصراع، تشترط تأييد الشعب الفلسطيني لسلطة أبو مازن، والمعادلة الفلسطينية تشترط تأييد سلطة أبو مازن (وأي سلطة يمكن أن توجد) للشعب الفلسطيني ولثوابت نضاله، ولا يمكن إطلاقا الجسر بين هاتين المعادلتين.
أثناء الحصار على غزة وعلى عمليات إعمارها أو إعادة بنائها، قامت إسرائيل بعملياتها التجميلية في "إعادة إعمار" الضفة، كجزء من عملية تأديبية لغزة، فتم السماح لحوالي 30% من العمال الفلسطينيين في الضفة، حسب بعض التقديرات، بالدخول إلى إسرائيل، وأشارت المعطيات إلى ارتفاع طفيف في عمليات البناء في الضفة، انخفاض طفيف في البطالة، وإزالة العشرات من مئات الحواجز.
أما وعود الرباعية باستثمار 2 مليارد دولار في الضفة فلا نعلم عن مصيرها شيئا. مقابل "حسن السلوك" الإسرائيلي هذا، زاد عمق التنسيق الأمني بين "القوات" الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، وقامت الأولى بتسليم العشرات من المطلوبين الفلسطينيين في الضفة، كما قامت إسرائيل بتوسيع الكتل الاستيطانية، التي يتضح شيئا فشيئا عن وجود تفاهمات بصددها مع أبو مازن، و"التفاهمات" في قاموس المفاوضات تعني في أغلب الأحيان تنازلات من جانب المفاوض الفلسطيني، فلم يذكر مصطلح تفاهمات في السنتين الأخيرتين، إلا في سياق القدس، والكتل الاستيطانية والتنسيق الأمني.
وتجري المعادلة الإسرائيلية دون معيق من الجانب الفلسطيني: "الإعمار" مقابل الاستيطان في الضفة، محاصرة غزة، وتهويد القدس.
وإذا كنا بصدد سنة على تدمير غزة، وثلاث سنوات على حصارها، فإننا بصدد سنوات من مخطط تهويد شرس ومتسارع للقدس، وعمليات "إعادة الإعمار" التي تحتاجها القدس ليست أقل البتة من عمليات إعادة الإعمار التي تحتاجها غزة، على الأولى تخاض حرب سياسية شرسة، وعلى الثانية جرت حرب عسكرية شرسة، واثنتاهما جرتا وتجريان "بتفاهمات".
مقابل هذا قدمت الساحة الدولية خلال السنة الأخيرة، مبادرات وتجركات في الاتجاه المعاكس تماما. صحيح أنه لم يقدر لهذه الجهود والمبادرات أن تستنفذ نفسها بشكل كامل، وذلك تحديدا بسبب وجود جو "التفاهمات" بين المفاوض الفلسطيني والجانب الإسرائيلي. فلا تستطيع المبادرات الدولية أن تفرض نفسها كمحرك وكلاعب أساسي، يستبدل "التفاهمات" الفلسطينية-الإسرائيلية تجاه القدس والكتل الاستيطانية وغزة. وتصريحات المفاوض الفلسطيني والعربي العديدة ما بعد الحرب على غزة بـ"أننا ندعم الجهود الدولية للسلام" ليس بوسعها، -وإن أرادت ذلك- تحويل الاحتلال من قضية عربية بحاجة لدعم دولي إلى قضية دولية بحاجة لدعم عربي.
تقرير جولدستون، تقرير قناصل الاتحاد الأوروبي حول القدس، المبادرة السويدية، مذكرة الاعتقال ضد ليفني، كل هذه تحركات دولية واضحة المفاهيم السياسية تحركت تحديدا حول موضوعات دخلت دائرة "التفاهمات الفلسطينية –الإسرائيلية"، ومن هنا أهميتها، وإن جوبهت بتنازلات فلسطينية، وبضغوطات إسرائيلية وبانكفاءات دولية رسمية.
التحركات الدولية تشير إلى مناخ عام متزايد مستعد لمحاسبة إسرائيل، والسلطات الإسرائيلية تشعر بذلك، وتتعالى الأصوات التي تشير إلى أن زيادة ميزانيات الدعاية الإسرائيلية، وزيادة حملات الضغوطات الدبلوماسية قد تجدي في منع اتخاذ خطوات عملية ضد إسرائيل، لكنها لن تنجح بتغيير قناعات دولية باتت راسخة بشأن انتهاكات إسرائيل السياسية وجرائمها العسكرية. ويتعامل البعض مع هذا القناعات كرادع لإسرائيل، قد لا تقل عن رادع اتخاذ خطوات عملية ضدها.
يبقى علينا أن نقنع الجانب الفلسطيني، طالما هو ممثل بسلطة لا تهوى من السياسة شيئا غير المفاوضات، ولا تتقن من السياسة شيئا بما في ذلك المفاوضات، وطالما هو يتعامل مع الاحتلال والصراع كقضية دولية بحاجة لدعم فلسطيني، أقول، بقي على الشعب الفلسطيني أن يقنع السلطة الفلسطينية أن تقوم فعلا بدعم هذه الجهود الدولية، أي بعدم حماية إسرائيل منها، وبعدم إعاقتها عن طريق" تفاهمات" تمنح إسرائيل ما لا يقبل مسؤولون أوروبيون منحه.