منذ قررت إسرائيل فرض الحصار على غزة قبل أكثر من ثلاث سنوات كانت تنفذ هدفا استراتيجيا رسمته وبدأت بتنفيذه قبل العدوان على لبنان في 2006، وهو تقويض دعائم المقاومة الفلسطينية والإجهاز عليها نهائيا، وقد تعزز هذا الهدف خصوصا بعد فوز حماس في الانتخابات وتشكيل حكومة بقيادتها.
ولا داعي للخوض بتفاصيل التآمر الفلسطيني والعربي مع إسرائيل وأمريكا لإنجاز هذه المهمة، لأن نظرة متفحصة للمشهد الفلسطيني اليوم كفيلة بتأكيد تلك المؤامرة وانتفاء الحاجة لتكرار التفاصيل المملة والمنهكة.
نجحت إسرائيل بعزل غزة، ولكنها لم تنجح بالقضاء على المقاومة التي ما زالت وفقا للتقارير الإسرائيلية ذاتها تسيطر على الوضع وتعزز من قدرتها القتالية، واضطرت إسرائيل لمواصلة التفاوض مع حماس لإبرام صفقة تبادل الأسرى، ولم تنجح بإملاء شروطها عليها رغم استمرار الحصار وتشديده مؤخرًا ببدء بناء الجدار المصري الفولاذي على حدود القطاع مع مصر، التي كانت تشكل منفذا وحيدًا من خلال الأنفاق مع العالم الخارجي.
ويبدو، إستنادًا إلى طبيعة هذه المفاوضات والظروف المحيطة بها، أنَّ المقاومة ورغم انخفاض منسوب الصواريخ إلى المستوطنات الإسرائيلية في الجنوب ما زالت تحافظ على تماسكها وقوتها بشكل أذهل الجميع، وان إسرائيل فشلت في تحقيق حتى أهدافها الثانوية من العدوان على غزة مثل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير، وهي مضطرة لفعل ذلك فقط عن طريق المفاوضات غير المباشرة ومن خلال الوسيط الألماني محاكاة لتجربة حزب الله السابقة الذي أعلن عشية غزو لبنان أن إسرائيل لن تستعيد جنودها ولن يحصل التبادل إلا وفقا للشروط المذكورة وهذا ما كان.
ثمار العدوان والدمار والقتل في غزة جنتها إسرائيل في الضفة الغربية، حيث نجحت بملاحقة المقاومة والانقضاض على جيوبها في المدن والقرى الفلسطينية بشكل غير مسبوق. ولانجاز هذا الهدف تضافرت الجهود الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية وأمريكا والدول المانحة على اختلافها، إضافة إلى أجهزة الاستخبارات العربية والأجنبية الفاعلة داخل الضفة الغربية.
وشاهدنا في السنوات الأخيرة كيف تداعت بؤر المقاومة الواحدة تلو الأخرى على أيدي الإسرائيليين وقوى الأمن الفلسطيني التي لعبت دورًا رئيسيًا في مخطط تصفية المقاومة واعتقال عناصرها، وفي بعض الحالات تسليم سلاحها بالتراضي وإعلان الولاء للقيادة السياسية في السلطة كما حصل مع بعض رموز المقاومة في جنين ونابلس وغيرها من المواقع الفلسطينية.
ولعل الخطر الأكثر تربصا بالمشروع الفلسطيني المقاوم داخل الضفة الغربية لا يتوقف عند الاعتقال والتصفية أو إعلان الولاء لبعض العناصر المقربة من السلطة، بل يتجاوز ذلك إلى التنظير المنهجي لفشل خيار المقاومة وتحديدا الكفاح المسلح والانتفاضة الشعبية وحتى أي مظهر من مظاهر الانتفاضة «العنيفة».
ويأتي هذا التنظير ليخدم تلك المواقف العربية والفلسطينية التي لا تمتلك أي خيار آخر سوى خيار المفاوضات، والتي طالما انتقدت المقاومة ووصفتها بالمغامرة والعبثية قبل وبعد وأثناء العدوان.
ولا تكتفي «النخب السلطوية» بهذا الموقف السلبي من المقاومة، وإنما تحاول ابتكار مفاهيم جديدة وتصويرها على أنها خيارات ورؤى بديلة للرؤى النضالية المتعارف عليها.
ومن أبرز هذه المفاهيم التي برزت مؤخرا على الساحة الفلسطينية مفهوم «الانتفاضة الثقافية» الذي يعرض على أنه تجديد وتأصيل نظري حديث. لكن في الحقيقة لا تعبر هذه الانتفاضة الثقافية عن موقف ثوري كما يلوح من التسمية، وإنما هي تعبير عن حالة الاستسلام والخنوع التي وصلت إليه هذه النخب ومن يقف وراءها، خصوصا وأنها معروضة بديلا للمقاومة الحقيقية.
بمنأى عن هذه الحالة التنافرية في المشهد الفلسطيني بين الضفة وغزة، فإن الحالة الشعبية الفلسطينية في كل مكان تمتلك مخزونا هائلا من ثقافة المقاومة وجدوى استخدامها خيارا في مواجهة الاحتلال وتحقيق المشروع التحرري مهما طال الزمن. وهذه الثقافة تستمد روحها وحياتها أولا من التراجيديا الفلسطينية التي وصلت إلى الذروة في تجربة غزة المستمرة حتى الآن، وثانيا من تجربة المقاومة اللبنانية التي قلبت الموازين من خلال كسر المسلمات، لا بل خلق توازنات جديدة في قوة الردع رغم تفوق الآلة العسكرية الإسرائيلية.
لقد كان الهدف المعلن للعدوان على غزة: استعادة قوة الردع الإسرائيلي، وهذا ما تؤكده إسرائيل اليوم أكثر من السابق، وقد عنى هذا الهدف بالمفاهيم الإسرائيلية الإجهاز على المقاومة بعد تدمير البنى المدنية والعسكرية في القطاع، إلا أنه يعني اليوم وفقا لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين، ومن ضمنهم الوزيرة السابقة ليفني، انخفاض عدد الصواريخ التي تطلق على جنوب إسرائيل.
باعتقادنا إن الانجازات التي حققها الاحتلال في الضفة لن تدوم طويلا، ولن تصمد أمام حالة الغليان الآخذة بالتشكل والازدياد والناتجة عن مسلسل الإخفاقات التي تتورط فيها السلطة الفلسطينية يوما بعد آخر.
المشروع الفلسطيني المقاوم يعي محدودية المواجهة مع إسرائيل وفقا لموازيين القوى التقليدية عسكريا، لكنه أثبت على مدى تجربته الغنية أنه يستطيع خلق وابتكار واستحداث آليات وأساليب وأدوات قادرة على الحفاظ على توازنات في مستوى الردع والمواجهة، وهذا الردع وهذه المواجهة لا تقتصر على حدود فلسطين إذا ما أصر المشروع المقاوم على اعتبار القضية الفلسطينية قضية العرب أجمعين.
ولا نظن أن انخفاض سقوط الصواريخ على جنوب إسرائيل هو المقياس لوجود وقوة واستمرار المقاومة في غزة، بل يبدو أن أولويات المقاومة في المرحلة الحالية منصبة على تحقيق انجازات سياسية ومعنوية في الداخل والخارج، وعلى رأسها إطلاق سراح الأسرى، يليها المصالحة بين الفصائل، إضافة إلى إعادة بناء ذاتها على الأرض و إعمار ما دمرته الحرب.