عام على محرقة غزة.. وملحمة صمودها../ عبد اللطيف مهنا
4/1/2010 14:42
عام على محرقة غزة التي أدارها الإسرائيليون في حربهم الضروس غير المتكافئة على القطاع المحاصر، وعام على أسطورة صمود ومقاومة فذة وتضحيات بطولية غير مسبوقة صنعها فلسطينيو القطاع العزّل المستفرد بهم... الذكرى الأولى للمحرقة والصمود الأسطورة مرت قبل أيام على كل من يعنيهم الأمر في عالمنا، وهما كانا طرفين مختلفين، كلٌ منهما نظر إليها من زاويته ولم يرها إلا بعينه. طرفان، أو جبهتان، كانا نقيضين لا يلتقيان وإنما وجوباً يصطرعان.
الأول، جبهة عريضة لها عديد الأطراف، التي إما قد التقت مصالحها أو مواقفها، وبالتالي يوجهها جميعاً هدف واحد هو فل إرادة الصمود والمقاومة، والتمسك بالحق، ومحاولة صون القضية، ومواصلة النضال لاستعادة وطن سليب، لدى الشعب العربي الفلسطيني... أو وباختصار، تركيع شعب يرفض منطق الاستسلام... إنه الهدف الذي يرمي في المحصلة إلى إتمام تصفية قضية قضايا العرب في فلسطين والإجهاز نهائياً عليها. أما هذه الأطراف في ذات الجبهة المجمعة على ما هي مجمعة عليه، فهي إسرائيل بداية، ومن ورائها ما يعرف بـ"المجتمع الدولي"، الذي ترجمته الحرفية هي الغرب جميعه وبتنويعاته وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، ويأتي في آخر قافلة هؤلاء مزيج من عرب العجز والتخاذل والتواطؤ والانهزامية وفلسطينيوهم، أو هؤلاء الذين يندرجون تحت وصف محبب لدى ذات "المجتمع الدولي" يطلقه عليهم وهو عرب "الاعتدال"، ومعهم المدمنون لوصفة "المسيرة السلمية" على الطريقة الأوسلوية من الفلسطينيين... هذه الجبهة أبغض الحرام عندها مرور مثل هذه الذكرى، والتي لا تعني بالنسبة لها إلا ذكرى الفشل في قهر الإرادة الغزاوية المدماة وإخضاع غزة المدمرة العنيدة، أو كسر صمود وصلابة أهلها الذين يتحدون الحصار المطبق عليهم منذ ما يقارب السنوات الثلاث، جواً وبراً وبحراً ومن كل الجهات، واللذين، رغم ما ألحقته الحرب العدوانية والحصار الإبادي بهم، لازالوا شامخي القامة رافعي الرؤوس المطلة من بين حطام وركام منازلهم التي لم يعاد بناؤها بعد عام من مؤتمر شرم الشيخ وملياراته المرصودة الموعودة لإعمارها... لم تزل غزة سجناً كبيراً محاصراً، زادوا حصاره وأسواره الإسرائيلية الاسمنتية والالكترونية سوراً فولاذياً عربياً الوجه واللسان هذه المرة، لكنما أمريكي المنشأ والتشييد والتمويل، إسرائيلي المطلب والتوظيف والاستثمار... سور خالف كل الأسوار من نوعه التي عرفها التاريخ، لأنها جميعاً تقام فوق الأرض، أما هذا السور العربي الأمريكي الإسرائيلي فيقام تحت الأرض لصد هجمات أنفاق إرادة البقاء الغزاوية.
نحن في هذه العجالة لسنا بصدد الكلام عن هذه الجبهة التي كل العرب وغير العرب هم اليوم على بيّنة من أمرها، وإنما نشير إليها فحسب، ولسنا في وارد الإطالة والإفاضة فيما يتعلق بها، لأن ما يعنينا هذه المرة هو الجبهة الثانية أو النقيضة لها، وهي الجبهة التي أطرافها هي ما تيسر للأمة من قوى حيّة، ومن مؤيدي فكرة وثقافة ونهج المقاومة، عربياً وفلسطينياً وإسلامياً وإنسانياً، ومعهم قليل القلاع المتبقية في هذه الساحات والمعروفة بأطراف الممانعة، التي لازالت ترفض باطل التصفية وتدعم حق المقاومة... والأهم من هؤلاء جميعاً هو وجدان أو ضمير أمة غيّبت بكامل كتلتها من محيطها إلى خليجها، تجلّى أيما تجلٍ في التظاهرات المليونية إبان المحرقة، ومعه كان رديفه في الجوار الإسلامي، والذي تعدى فكان إنسانياً تردد صداه في أربع جهات الكون حينها.
الجبهة الثانية احتفت بالذكرى وكل طرف من أطرافها لاقاها على طريقته من خلال موقفه ومنطلقه، ومع هذا، لعلها بتصانيفها المختلفة وقد احتفت بها أو حاولت إحياءها لم تعطها فعلاً كامل حقها الذي تستحقه وتعنيه وترمز إليه والمتمثل في وجوب الإجابة المتعمقة على مهم الأسئلة التالية:
لماذا كانت المحرقة، أو لماذا هدفت... وماذا عنته وقائع ومآلاً؟ والشق الأخير من التساؤل يعني كلٍ من وجهيها كليهما، المحرقة في شقها الإسرائيلي العدواني والملحمة في شقها الفلسطيني الصمودي الأسطوري... بل ومتى تتجدد باعتبارها لم تحقق هدفها باعتراف مرتكبيها؟!
لقد اتسم أغلب الحديث الذي سمعناه بهذه المناسبة، والذي رددته أغلب الأطراف، بتناول الحدث من جانبين هما، إما وحشية العدوان وحربه الإبادية وتعداد أرقام الضحايا والكلام عن هول ما ألحقه الإجرام الصهيوني من دمار وويلات، وإما صمود فلسطينيي القطاع البطولي وتضحيات قوى المقاومة فيه واستبسالها اللامحدود في ظل موازين قوى موغلة في لا تكافئها واحتلالها. أو تناولت الحصار الإبادي المضروب المستمر على غزة وحجم الدمار والبنى المهدمة التي لم يسمح أو يتح إعادة إعمارها...إلخ، وهذا أمر جيد، لكنما إن عكس هذا تعاطفاً وتضامناً وتأييداً أو اصطفافاً معنوياً إلى جانب الصامدين المقاومين المرابطين إلا أنه إن لا يكفي فبعضه قد يضمر لدى الكثيرين، ومن أغلب مواقع هؤلاء المحتفين بالمناسبة المختلفة، إما تعويضاً عن عجز يعبر عنه بالتغني بأسطورية الصمود وبسالة الصامدين وهجاء المعتدين وتعداد صنوف بربريتهم، على طريقة أوسعتهم سباً وفروا بالإبل، وإما محاولة تبرير للذات، ربما أحياناً هي لا واعية، في محاولة لإعفائها من وزر ما كان منها من قصور في إبداء الدعم الحقيقي أو العملي الملموس للصامدين، قبل وبعد وإبان المحرقة الملحمة. نحن هنا لا نعمم، ولكن غزة اليوم أكثر من الأمس تستحق الوقوف المغاير عن هذا المتوفر حتى الآن إلى جانبها، والذي يعني عربياً وإسلامياً وإنسانياً الوقوف في الواقع إلى جانب الذات قبل غزة في ظل مثل هذا البغي الكوني فاحش العدوانية وفاقع القباحة وبالغ الهمجية، الذي قد لا يستثني أحداً، والذي يطول المشاعر الإنسانية في أقصى جنبات الكون. لماذا؟
نقول هذا، لأن هناك وجها آخر بدونه لا يغدو التضامن تضامناً ولا التعاطف تعاطفاً، ولا الدعم والتأييد والاصطفاف ذا قيمة أو بالأحرى جدوى. وهو ماذا يفعل كل هؤلاء الآن، حتى يرفعوا الحصار الإجرامي المستمر على القطاع المحوّل سجناً، وهو الأبشع في تداعياته حتى من تلك الحرب الهمجية التي تمر ذكراها الأولى... ماذا فعلوا وماذا يفعلون، وماذا نفعل جميعاً، لكسر الحصار، أقله الشق العربي منه على غزة، وإيقاف سوره الفولاذي، الذي يجري إنشاؤه هذه الأيام، والذي أبسط ما يمكن وصفه به أنه لا وظيفة له إلا إكمال خنق قاطني أكبر معتقل عرفته البشرية؟!
ولنسأل أنفسنا سؤالا واحدا فحسب، ماذا لو عمم العرب والمسلمون تجربة قوافل جورج غلوي لكسر الحصار على غزة فقط؟!! ولنتصور ما الذي سوف يحدث لو فعلوا، وحينها لسوف ندرك مدى القصور الذي قد يحجبه أو يغفله ويقفز عنه، أغلب هذا التناول الجاري لهذا الحدث وهذه الذكرى!
إن مضمون كلمة تضامن في مثل هذه الأحوال، أو كما يفترض بالنسبة لمثل هذه الأطراف ناهيك عن مضمون التعاطف، لا تعني أمراً ذا معنى إذا ما قيست بالمستوجب فعله حيال صراع قلنا أنه لا يستثني أحداً، فالمطلوب، كما قلنا أيضاً، هو الوقوف مع النفس أولاً وأخيراً وذلك بالوقوف إلى جانب غزة. إن كان هذا على الصعيد الرسمي أو الشعبي، وإذا لم نعلق آمالا عراضاً على الصعيد الأول ولن نفعل، فالتوجه بالطلب يظل دائماً باتجاه الثاني، ولنعترف هنا، أننا، لا عربياً ولا إسلامياً، ولا إنسانياً، أعطينا غزة، باعتبارها، قبل عام ولا تزال ترمز لفظاعة عدوان مستمر ضد كرامة أمة وإنسانية بشرية، وأسطورة مواجهة نيابة عن الجميع... لم نعطها حقها في الاسناد والمشاركة فيما كانت ولا تزال تواجهه، أو قد ارتفعتا مهما حسنت النوايا غالباً، إلى مستوى مثل هذه المحطة النضالية التي تعني الكثير الكثير، حتى ولو تساهلنا وقلنا أنه ربما انطبق في بعض الحالات المثل القائل، العين بصيرة واليد قصيرة... لم تعط المناسبة حقها في التطرق إلى ما هو الأهم من ما قد جرى الحديث عنه بكثافة هذه الأيام في ذكراها الأولى... كيف؟
لعل الاكتفاء بتذكر بشاعة المحرقة وأسطورية الصمود ونسيان حصارها الأفظع، أو الاكتفاء بالتذكر والغوص في تفاصيلهما دون الانطلاق من أبجديات الصراع كأولوية الأولويات قد يغطي بحسن أو سوء نية أحياناً، أو نقص في الوعي أحياناً أخرى، على ما لا يجب أن يغيب ولو للحظة واحدة، وهو طبيعة هذا الصراع وثوابته في فلسطين وعلى فلسطين. أو بشكل أشمل استهدافات هذا العدوان الدائم على الأمة العربية، واستطراداً الإسلامية. بل والإنسانية جمعاء... ولنسأل أنفسنا أيضاً:
هل يجدي غزة نفعاً، أو يرفع الحصار عنها هذا التباكي العربي على الوحدة الوطنية الفلسطينية، الذي يعني موضوعياً محاولة تبرئة الذات بإلقاء اللوم مرة واحدة على كلا الطرفين الفلسطينيين اللذين لا يجمعهما ولن يجمعهما جامع، أو هذين النقيضين، المساوم والمقاوم، ووضعهما في سلة واحدة... إذ كيف تكون الوحدة الوطنية بدون برنامج للحد الأدنى المقاوم الذي يمكن أن يجمع كل ألوان الطيف الفلسطيني... وهل هذا ممكن، وقد تباعدت الشقة بين من اعتبر المفاوضات والمفاوضات وحدها أسلوب حياة، ومن رفع راية المقاومة وهدف تحرير كامل التراب الوطني؟!
... لن يُرفع الحصار عن غزة، ما لم ينظر إليه كل العرب على أنه حصار مضروب على كل الأمة من محيطها إلى خليجها، ودونما أن يسارعوا إلى كسره هم قبل غيرهم... كما لن تأخذ هذه الذكرى حقها منا إلا إذا ما تذكرنا أولاً وقبل كل شيء، أبجديات الصراع، والعودة به إلى مربعه الأول، باعتباره صراع وجود لا حدود. وثانياً، أن يدرك كل من يهمه الأمر ويؤمن أن من يحاصرون غزة إنما يريدون تركيع أمة بكاملها عبر تركيعها... أمة لم يتركوا ولن يتركوا لها خياراً سوى المواجهة... وعليه، ليعلم من لم يعلم بعد أن طبيعة العدو تقول لنا صباح مساء: لسوف تتكرر المحارق ضدكم وبالمقابل ملاحم الصمود في غزة وسواها... لعله قدرنا، لأن المعادلة التي تفرضها طبيعة الصراع شئنا أم أبينا هي إما نحن وإما هم!