[x] اغلاق
أملودة تنشر عبيرها وتذبل
24/8/2019 6:57

أملودة تنشر عبيرها وتذبل 

إضمامة  حروف في رحيل العاملة الاجتماعية عبير أيوب- بابا 

 

بقلم : المحامي سمير حاجّ

لكلّ راحل عنقود في القلب  وحبّة في الكبد وصورة لا يمحوها غبار السنين .هذا الكبد المترع بالحزن والمسكون بتباريح الشّوق والحرقة الكاوية،  وسمه الشاعر بشارة الخوري في رثاء أمير الشّعراء احمد شوقي بمصدر الرثاء إذ قال :

سألتنيه رثاء خذه من كبدي   لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره 

من هنا ،من هذا الكبد الطافح بالأوجاع والمذاب من الداء والدواء،  والمذيب قلوب الأهل والأحبّة والأصدقاء ، بدأ المشوار وانتهى كحلم مرعب  " وكأنّ ما قد كان لم يك كانا " ! كبد وجيع مهلهل ، يكابد المرض والشّوك ويمزّق فلذات  أكباد الأهل والأحبّة ، ويجفّف زهرة فوّاحة شامخة من بستان ولا أجمل !

سفر الآلام امتدّ سنة ونيّف وكان مليئا بالشّوك والقتاد والعوسج ، ومحفوفا بالمسامير وإبر النّحل ،فقد تسمّرت على سرير المرض ردحا ومع هذا لا شكوى ولا تنهّد  ولا غضب ، مشيت فيه راضية مستشرفة الأمل والشفاء ، لكن الطبّ والدواء خذلاك تاركين كابوسا يفتّت القلوب والأكباد وينشر آلاف علامات التعجّب والاستفهام !

هل كان ما كان ؟  ولماذا ؟

هل رحلت عبير ؟ أم أنّها في غفوة صباحية ؟أم أنها استملحت عنوان آخر كتاب  " بينما ينام العالم " طلبتينه منّي للمطالعة وأنت مسمّرة على سرير المرض ، فنمت عميقا مع عالمه التعبان والمثخن بالجراح ، مع أنّ الكبد المنهدّ والمكوي من العلاج والأدوية منعك القراءة !

عبير يا اسما على مسمّى !

هل جئتينا عبيرا  يحمل شميم الأزاهير ومعسول الكلام ويهرب فجاءة  ودون إيذان مع لفحات شمس آب الحارقة ؟ ما عرفنا ذلك . ليت قطار الموت تعطّلت عجلاته وما وصلك أيتّها العاملة الاجتماعية المثالية المطبّبة هموم وآلام المتعبين والمعذّبين في مجتمعنا بمرهم معرفتك .

هل نصدّق أنّ عبير رحلت " وما بعد العشية من عبير " ! ،  كيف ذلك وكلّ الرسائل المنهالة والمنثالة من قلوب وجيعة لا تصدّق الرحيل  الكاوي والقاسي.

كيف ترحل من تحمل عبيرا تصوك نوافحه  ويتضوّع مسكا وبخورا في قلوب ودهاليز من عرفك !

بعد أن حملت  اسم أيوب يا " عبير أيوب- بابا " هل قرأت سفر أيوب حتى عشت حذافيره  في مشوارك السيزيفيّ مع المرض ؟ كيف لا ، وقد تجرّعت الخلّ والمرّ وما شكوت بل سبقت أيوب في صبره !

كيف نرسمك بالكلمات  وأنت أيقونة في المساعدة والتفاني في خدمة الناس  المحتاجين .

 كنت بلسما للمسنّين ،وكنت عبيرا إنسانيا بكل معنى الكلمة ، وكنت أمّا مثالية تسقي أبناءها ماء المكرمات ،وتكدّ وتثابر مثل عقارب الساعة وكقبطان يقود سفينته بين الريح الصرصر ليصل مرفأ الأمان بسلام .

كنت إنسانة  قلّ مثيلها في الوعي والثقافة  والاحترام والهدوء ، وكنت مفخرة أهل رأوا فيك  شمسا تضيء نفوسهم المحبّة لك .

يا آية في التواضع  والاحترام وحبّ الناس !  كأنّ الشاعرخصّك بقوله :

ملآى السنابل تنحني بتواضع 

والفارغات رؤوسهن شوامخ 

 عهدناك جوهرة اجتماعية ومثالا للوعي والاتزان وبئرا عميقة طافحة بالعطاء والتفاني .

عطّرت الحياة وبلسمت وجع الناس  ، وتألّقت في سلم الرقي والتقدّم ، لكنّ الحياة لم تعطك بقدر ما أعطيتينها  ، فأجمل الأسفار تنتهي سريعا .

سنفتقدك كثيرا وسنشتاق إليك كلّما حرّك فينا جناح الذكريات  مناسبات الأعياد والأفراح التي جمّعتنا بك وبزوجك الطيّب نادر،   في بيت العم المرحوم أبي نادر بابا طيّب الله ثراه، والذي كنت في عينيه الأغلى .

ينعقل اللسان أمام رحيلك القاسي  ، وترحل النفس مع فلسفة الحياة المنقوشة في قول الشاعر :

مشيناها خطى كتبت علينا 

ومن كتبت عليه خطى مشاها 

 

أجمل الأزهار يا عبير لا تعيش طويلا ، والنسمة البليلة الجميلة تمرّ سريعا  ، ومواسم الفرح في الحياة قصيرة ، وأنت إنسانة نادرة اقترن اسمها بزوج نادر ،  مشى معك في السهل والجبل ،وحين حملت صخرة سيزيف من القاع إلى القمة ، وإن كان المشوار سرابا ومتعثّرا لم يتغيّب لحظة عن المسير المشترك .

في ربيع الحياة الهانئة ظلّلتكما ديمة سكوب سمحاء ،  أمطرت لكما ثلاث هدايا سعيد وغدي واسيل ، سيحملون اسمك وحبّك  بمعية أبيهم ، تاجا في جباههم الناصعة وفي قلوبهم البريئة والكسيرة .

طوبى لك على هذا الكنز والإرث الباقي الطافح بحب الناس،  المخفّف الأسى الشفيف الساكن فينا بعد رحيلك .

ستبقى ذكراك الطيّبة تسكن تلافيف الذاكرة وغرف القلوب المضيئة .