يخطئ الرئيس حين يتبنى، لأسباب تتعلق بالصراع مع حركة حماس، الموقف المصري من قضية الجدار الفولاذي حول غزة. يخطئ بتناسيه للتاريخ القريب جدا، ويخطئ في الحسابات الإستراتيجية.
أما الخطأ التاريخي: فهو نسيان أن نظام مصر مسؤول مسؤولية مباشرة عن قطاع غزة. فقد احتلته إسرائيل وهو تحت سيطرة الجيش المصري. بالتالي، فعلى مصر أن تستعيد هذا القطاع أولا من بين أيدي الإسرائيليين قبل أن تتحدث عن السيادة. فوجود قطاع غزة تحت الاحتلال حتى الآن عار على السيادة المصرية وعار على الحكم المصري، الذي استعاد سيناء مكبلة مقابل التخلي عن قطاع غزة وعن القدس. وهو التصرف الذي فتح الباب، لاحقا، لاحتلال بيروت أيضا عام 1982.
بالتالي، فما كان على الرئيس، الذي يفترض أن يمثل مصالح الشعب الفلسطيني، أن يؤيد نظام في موقفه من الجدار الفولاذي. فعلى هذا النظام مسؤولية أن يستعيد غزة من الاحتلال. وإن لم يكن قادرا فعليه، على الأقل، أن يدعم مقاومتها بالسلاح. يعني عليه أن يهرب هو السلاح إليها حتى تتمكن من المقاومة. أما أن لا يستعيد القطاع، وأن يمنعه من المقاومة، فهذا ما لا يمكن قبوله أبدا.
لا يجوز للرئيس أن يعفي النظام المصري، والأنظمة الأخرى، من واجباتها، وأن يتحدث هنا عن السيادة المصرية. السيادة المصرية تقتضي أن تستعيد مصر قطاع غزة من الاحتلال. وإقامة جدار حول غزة يعني تأبيد هذا الاحتلال. أم لعل الرئيس يعتقد أن غزة ليست محتلة؟ هذا ما كانت تقوله حماس. أما السلطة فكانت تصر على أنه محتل. وإذا كان محتلا فلا سيادة لمصر التي أخذ منها القطاع عنوة قبل أن تستعيده.
لا يمكن تعريف سيادة مصر نكاية بخالد مشعل. هذه لعبة تصلح لنمر حماد وغيره. أما الرئيس فعليه ان يكون حذرا.
أما الخطأ الاستراتيجي: فهو أن الرئيس يدعم بموقفه هذا تيارا يمثله أناس في النظام المصري يريد قطع الصلة بين مصر وفلسطين، وبين مصر والعالم العربي، وأن يندفع في العلاقات مع إسرائيل على حساب فلسطين وعالمها العربي. الجدار الفولاذي رمز لهذا التيار، الذي رأينا كيف أنه خلال الأيام الماضية لعن فلسطين والفلسطينيين ككل، وليس حماس وحدها. ولا يمكن لفلسطين أن تقبل جدرا بينها وبين مصر، حتى لو شاء بعض حكامها ذلك.
طبعا، ليست هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها حكاما لمصر يفعلون ما فعله السادات ومبارك. ففي العام 1129م سلم الملك الكامل القدس للصليبيين، بعد ان كان حررها صلاح الدين بالدم والدموع. وفي عهد الوزير شاور استدعي الصليبيون لحماية الحكم ضد صلاح الدين، إلى أن انتصر الحق لصلاح الدين، وتغير الوضع كله. وليس من شك في أن الكامل وشاور فعلوا أفعالهم النكراء بحجة سيادتهم وسيادة مصر أيضا! لكن ذلك، كي نكون منصفين، لا يخص مصر وحدها، فقد كان هناك في الشام من تحالف مع الصليبيين في فترة من الفترات. فالمصالح الأنانية أو الخوف يؤديان أحيانا إلى ما هو مخجل ومخز.
كان يمكن للرئيس أن يسكت عن ادعاءات حاكم مصر بالسيادة، إذا كانت الدواعي السياسية لا تسمح له بالهجوم على موقف هذا الحاكم. لكن ما كان يحق له أن يؤيد مثل هذا الموقف.
لا يجوز لرئيس فلسطين أن يدخل إلى قضايا إستراتيجية بحسابات السياسة اليومية. هذا الموقف يذكر بالموقف من تقرير غولدستون. فقد تدخل الرئيس في مسألة حساسة، وهو لا يدرك حساسيتها. ثم حين اكتشف أن الأمر خطير تراجع، لكن معلنا ان الخطأ خطأ المندوب الباكستاني في الأمم المتحدة، لا خطأه هو!
ثمة قضايا حاسمة لا يجوز اللعب فيها.
وخلال حصار بيروت عام 1982 التقى صائب سلام، رئيس الوزراء اللبناني الشهير، الرئيس عرفات، وقال له: يا أبو عمار، إن كنت تنتظر دعما خارجيا سيأتي فنحن نفهم صمودك، لكن إذا لم يكن هناك دعم فيعني.... أي خلصنا وارحل. فأجابه عرفات: وهل كان يوسف العظمة حين دافع عن دمشق في معركة ميسلون ينتظر دعما خارجيا؟
وقد كان ردا بليغا.
واستشهد العظمة، واستشهد عرفات.
لكن الثوابت تظل ثوابت. ولا يمكن لرئيس فلسطين أن يتخلى عن هذه الثوابت، وأن يؤيد جدر الفولاذ بين مصر وفلسطين.