[x] اغلاق
لذكرى رحيل المحامي رضا ناصر عزّام عباءة الوداع لا تليقُ بكَ
2/4/2020 7:42

لذكرى رحيل المحامي رضا ناصر عزّام

عباءة الوداع لا تليقُ بكَ

بقلم: مارون سامي عزّام

هيّأ القدر الأجواء استعدادًا لرحيلٍ مُفجعٍ آخر لم يكُن بالحسبان، استنفر الخوف فينا مشاعر التَّرقُّب، حتّى نكون على موعدٍ مع حزمةٍ حارقة من الأحزان، ستُحرق أعماقنا، ستُلخبط أجندة أيّامنا. لقد كان هذا الموعد الأليم مع المحامي المعروف رضا ناصر عزّام، الذي تعثّرت مسيرته القضائية والأهم العائليّة بمرضٍ عضال، أقصاه عن مجتمعه ومحبّيه، وهو ما زال يطرق أبواب الحياة العملية بقوّة، محتفظًا بأسرار النّاس التي اعتبرها أمانةً شخصيّةً، لم يستهِن بها يومًا، ودّعنا، وما زال يحمل بيده مطرقة الحق، يطرق بها على طاولة العدالة.

منذ أن رقدتَ على فراش المعاناة، رقدت راحة بالنا في مضاجع القلق، لم نسترِح يومًا دون أن نطمئنّ عنكَ أيُّها الحبيب، لقد تركتنا في هذه المرحلة المزدهرة من عطائكَ... تركتنا وما زال برقُع الذّهول يغطّي وجوهنا، لأنّكَ كنت شخصيّةً مؤثّرة قضائيًّا في آرائكَ القضائيّة الصّائبة، ومؤثّرًا أيضًا علينا عائليًّا في حضوركَ الأُسري والاجتماعي المهيبَين، أناقة لبسكَ كانت ماركة مسجّلة على اسمكَ في دار التشريفات.

تألّقت بموهبة العزف على آلة العود والغناء، ما زلتُ أذكُر أجمل السّهرات العائليّة الخاصّة في منزلك الحيفاوي مع أحبائكَ المقرّبين جدًّا، وبالأخص والدي الرّاحل سامي عزّام، وزياد جبّور أطال الله بعمره، اللذان رافقاكَ في أمسيات الفرح والانبساط، أطربتنا بعزفكَ على آلة العود، التي داعبت أناملكَ أوتارها الموسيقيّة، فانسجَمَت أوتار صوتكَ الحنونة المميّزة، مع موّال "ولو" للرّاحل وديع الصّافي...

... كنتَ تفيض إحساسًا عاليًا، وما زال مشهد جلستكَ وأنت تحضن بحب آلة العود عالقًا في شبكة ذاكرتي إلى الآن، رغم صِغر سنّي في ذلك الوقت، فكلّما غنّيته أيها الغالي، كانت غصّة الحنين، تسترجع بريق الوفاء لزمنٍ جميلٍ قد تلاشى اليوم... كانت دموع الاشتياق، تنهمر فوق وجنات حاضرنا، تؤكّد شدّة انتمائكَ لبلدكَ الأول والأغلى على قلبكَ شفاعمرو.

زوجتكَ الفنّانة تيريز، رسمت لك لوحة الكفاح، بريشة حسّها المرهف، لوّنت مسيرتكَ العامّة، بألوان صارخة بعشق تراب الوطن... ملامح مبادئك كانت وبقيت جبهويّة، واضحةً في مواقفك الثّابتة، راسخةً في نشاطكَ السّياسي السّابق... انطَبَعَت في المسار الفكري لعائلتكَ، وخاصة في كريمتكَ لنا، التي حافظت على خط الجّبهة الواضح، ولم تتأثّر من ارتدادات موجات تراجع قوّة الحزب.

أيُّها الحبيب رضَا... سِرتَ تحت سماء الزّمن المكفهرّة بالأحداث التّاريخيّة، نبتت سنابل الكرامة في حقل نضالكَ، دفاعًا عن هويَّتكَ الوطنيّة، تحمَّلت صلف السُّلطات. لم تكن مجردَ محامٍ عاديٍّ، بل استطعتَ أن تكون وسيطًا نزيهًا بين الأطراف المتنازعة، لتقريب وجهات النَّظر بينهم، بهدف رأب التّصدُّع في العلاقات الشّخصيّة، لتجنُّب حدوث أي خصام.

حب استطلاعكَ كان يأخذك في جولة معرفيَّة، كي تتعرّف على مجالات أخرى، فكنتَ تهاتفني مرّات عديدة، تسألني عن بعض الأمور المتعلّقة بجهاز الكومبيوتر، وكيفيَّة التعامل مع بعض التّقنيات الخاصّة بعملك المكتبي، وكنتُ أساعدكَ قدر الإمكان، لأسهِّل عليك التعاطي معها بصورة أوضح، أتعلَم أن هذه الاتصالات، أسعدتني كثيرًا، لن أنساها، فهي عكَسَت تواضعكَ وقدرتكَ على التأقلم مع الحداثة.

طوى المرض بسرعة صفحة يومياتك المليئة بالمواعيد، حاول أن يسرق كتاب الماضي من مكتبة الذكريات الضّخمة الموجودة في كل بيتٍ زرته، لكنه لم يستطِع... زيارتكَ الأخيرة لمنزل والدتي، لم أتوقّع أن تكون آخر مرور لكَ على درب لقاءاتنا، لأنّك عوّدتنا دائمًا على قدومكَ الممتع، وعلى خفّة ظلِّكَ. ألبَسَكَ الموت عنوةً عباءة النهاية السّوداء، فرحلتك القصيرة في ميدان العمر، منحتكَ ملكوت الرّاحة في مَسكن رضى الرَّب، أيُّها الحبيب رضَا.