[x] اغلاق
حول سلسلة مرايا لياسر العظمة مرايا عكست كوميديا لاذعة
7/7/2020 6:05
حول سلسلة "مرايا" لياسر العظمة
مرايا عكست كوميديا لاذعة

بقلم: مارون سامي عزّام

النقد الكوميدي التلفزيوني اللاذع يعتبر نادرًا في العالم العربي... النقد اللاذع يعتبر شماتةً بالنسبة لبعض الأنظمة العربية، لذلك قَلَّ ما نجد عملاً كوميديًّا يجمع بين سطور قصصه وحواراته، نقدًا اجتماعيًّا لاذعًا، ليس بالضرورة نقدًا سياسيًّا، لأنه حتى النقد الاجتماعي اللاذع ينبع حتى من السياسات الاجتماعية لبعض الأنظمة، التي غالبًا ما تعكس المرآة الحقيقة لطبيعة هذه الأنظمة العربية، "المتعاطفة" مع هموم المواطن العربي، من خلال عمل كوميدي لاذع وملتزم بهموم المواطن. 

لعل أعمال الفنان الشامل ياسر العظمة، هي أفضل من جَسّدت هموم الناس وبواطنها، وعُرِضت للعالم العربي بشكل جميل ومحبب وبدون تجريح، والتي بدأها القدير ياسر العظمة بمسلسله الأول "شوفوا الناس" في بدايات سنوات الثمانين، وهو من تأليفه وتمثيله، وأسند الإخراج للمخرج، "هشام شربتجي"، وكانت هذه فقط البدايات... وقد شاركه في التمثيل طاقمه المعروف، مثل سليم كلاّس، هالة حسني، عصام عبه جي، هاني شاهين، والفنانة "نادين خوري"، العمل الوحيد الذي شاركت به مع "ياسر العظمة"، ومن بعدها انطلقت سلسلة "مرايا 85"، من تأليفه أيضًا وهو واضع الحوار لهذه السلسلة

من ثم تتالت سلسلة هذه المرايا الكوميدية اللاذعة، وانضم إلى إليها كل من الممثلتين المعروفتين مها وسلمى المصري ولكن لم يكن لهما دورًا محوريًا رئيسيًّا، بل كانتا في بعض أجزاء هذه السلسلة، بمثابة ضيفتين أو لعبتا دورًا أساسيًّا، إنما كان دورهما مؤثّرًا على أحداث القصة، إلى أن وصل في النهاية إلى "مرايا 2000" وكانت دائمًا في نفس الإطار الكوميدي اللاذع. 

شاركته أيضًا الفنانة الجميلة المعروفة "مرح جبر"، (ابنة القدير الرّاحل محمود جبر، م. ع) مرة واحدة في سلسلة هذه "المرايا". في بدايات أعمال ياسر العظمة كان يلجأ في نهاية كل حلقة إلى إدخال الأغاني المعروفة لنا جميعًا، أذكر على سبيل المثال أغنية الفنان عازار حبيب "صيدلي"، ولكن بالطبع بكلمات من تأليفه، تحكي عن معاناة المواطن العربي. 

لم أحبذ هذه الإضافات، لأنها لم تساعد على تعميق فهم المشاهد للمشكلة، بل لاحظت أنها كانت مواساة ورأفة بحال هذا المواطن العربي، الذي يريد تجسيدًا فنيًّا للنقد من خلال التمثيل، لتؤثر على الجهات المسئولة، فلذلك توقف عن إدخال الأغاني، وبدأ بالغوص في لب المشكلة الاجتماعية المطروحة أمامه، والتجويد في الكتابة المنتزعة من واقع معيشة الناس، من مشاكلهم وآمالهم وأحلامهم المكبوتة، التي يحبذون رؤيتها تتحقق ولو فنيًّا. 

في أداء الشخصيات لجأ ياسر إلى التنويع، وأتقن اللهجات السورية المتعددة، وأيضًا قدرته الفائقة على اللعب بشكل بارع جدًّا بملامح وجهه، هذه الأمور ميّزته عن باقي الممثلين السوريين الكوميديين... لقد أدّى كافة الأدوار من دور المواطن البسيط المهزوم طورًا والمظلوم أطوارًا، إلى دور صاحب نفوذ أو حتى رجل أعمال، وأعتقد أن هدفه كان مزدوجًا، فإنّه أراد تذوق مرارة الهموم وحلاوة الرفاهية الطاغية على حياته، وفي هذه الأدوار نجده كثيرًا ما يكون حاد المزاج، أو حتى تلاحقه متاعب الثراء الفاحش والمال.

هذا التنوع في الأدوار هو سبب نجاح سلسلة "مرايا"، وهو الذي جعل المشاهد في العالم العربي وحتى محليًّا إلى متابعة هذا التميز والتفرد في الأداء التمثيلي، وعدم التقوقع أو تكرار أساليب قصصية معينة. المشاهد يريد دائمًا في "مرايا" أن يلاحظ اختلافًا وعدم التشابه. ذَكَرَ ياسر العظمة في إحدى مقابلاته الصحفية أن بعض المشاهدين أحبوا هذا التشابه في بعض القصص ولاحظوا أن التكرار بقي محصورًا فقط في الإطار الفني ولم يطَل جوهر القصة. 

أخذ عليه النقاد في "مرايا 2000" أنه أكثر من اللوحات الشعبية التي انضوت تحت مسمّى الحكواتي، هذا ما حصل بالفعل، لذلك في عمله الأخير "حكايا"، (كان بالأصل "مرايا 2001" م. ع) لا تجد أي لوحة شعبية أو تاريخية. خرج عن إطار التسلسل الرقمي الذي التزم به لعدّة سنين في سلسلته، مع الحفاظ على النقد الاجتماعي الذي سوّقه للناس برفق وترفق، شاجبًا السلوك الفردي، متماشيًا مع متطلّبات أجهزة المخابرات السّوريّة، التي تدعو ياسر العظمة قبل تصوير أي عمل للتّباحث، على فكرة علاقته جيّدة مع أركان النّظام، الذي يسمح لمتنفّسٍ انتقادي، يُزيل عنهم صوريًّا نقمة الشعب   . 

من الملاحظ أن جميع سلسلة "مرايا" وحتى مسلسل "حكايا"، الفنان الكبير ياسر العظمة لم تُدِن أشخاصًا، إنما أدانت فكرة أو سلوكًا، وشيء آخر افتقرت إليه "حكايا"، هو غياب الممثلين الأساسيين، الذين كوّنوا البنية التمثيلية لـ"مرايا"، فالأدوار كانت أصغر من حجمهم، لا تليق بقدراتهم التمثيلية، لذلك أتاح في "حكايا" الفرصة للوجوه الشابة لتأخذ هذه الأدوار، مع مشاركة عدد كبير من الممثلين والممثلات الذين تعوَّد الناس على مشاهدتهم في "مرايا". 

الشعار الذي رافق سلسلة "مرايا" في بداياتها، تحديدًا في عام 1985: "التأليف والإعداد ياسر العظمة، مما سمع وقرأ وشاهد"، هذا الشعار ضايق النقاد، لأنهم اعتقدوا أنه لجأ إلى التعميم دون أن يذكُر من أين استقى وحي فكرته، لذا دأب لاحقًا في مسلسل "حكايا" إلى تسمية الأديب الذي أخذ منه الفكرة، رغم أن ياسر العظمة كما ذَكَرَ، كان يذكر أسماء الأدباء العرب، فمن الأدباء الأجانب، كثيرًا ما اعتمد على بعض أفكار "أنطون تشيخوف" أو الأديب التركي "عزيز نيسين". 

غالبًا ما كان يميل إلى التصرف بحرية في كتابة القصة، بحيث تخرج اللوحة القصصية النهائية لا تمت ذلك الكاتب بأية صلة، فمن هنا نراه لجا إلى التعميم، نافيًا ما ذَكَره الفنان المغدور ياسين بقّوش أن سلسلة "مرايا" ياسر العظمة، مأخوذة عن برنامجه التلفزيوني "تلفزيون المرح" الذي قدّمه في السبعينيات مع الفنان الرّاحل "ناجي جبر" (الذي اشتهر بشخصية أبي عنتر م. ع)، فذَكَر الفنّان ياسر العظمة أن هذا الكلام غير دقيق بالمرة.

الموسيقى التصويرية التي اتبعها في بداية سلسلة "مرايا"، كانت إيقاعية صاخبة ذات لحنٍ سريع وجميل، بحيث تناسبت مع أجواء "شوفوا الناس" و"مرايا 85"، وهذا يعود لطبيعة عمل المخرج الذي تعامل معه في بداياته وهو "هشام شربتجي"، الذي يعتمد في إخراجه على إيقاعات الممثل والموسيقى السريعتين، أو الشقيتين إذا جاز التعبير. 

باقي أجزاء سلسلة "مرايا" كانت الموسيقى التصويرية إيقاعية نوعًا ما ولكنها ليست صاخبة بل هادئة، مع إدخال آلة "العود" في التوزيع. في إخراج سلسلة "مرايا" تعامل أيضًا مع المخرج "حاتم علي" و"سيف الدّين سبيعي" و"مأمون البني" الذي أخرج "مرايا 1997" و"مرايا 2000"... لكل مخرج كانت له رؤيته الخاصّة، بصمته، طريقته وأسلوبه في تحريك الكاميرا، أو في تبني وتنفيذ الفكرة، لذا من هنا أحب "ياسر العظمة" أن يرفد مراياه الدماء الشابة من حيث الإخراج، والتنوع مطلوب وهذا في مصلحة العمل وليس ضده، وأعتقد أن جميع مخرجي سلسلة "مرايا" كانوا موفقين في عملهم. 

سلسلة "مرايا"، بمن فيها "حكايا"، هم الوجه الحقيقي والصادق لمعاناة المواطن السوري خاصة والعربي عامة، إذ نقلت لنا الحدث الاجتماعي عن طريق التمثيل الساخر اللاذع، والتي يقرأ عن بعضها المواطن العربي في الصحف، ولكن... لا يشاهدها على التلفاز... فمثلاً "مرايا" تطرقت إلى مشكلة النقص الحاد في المياه في سوريا، كما تطرّقت أيضًا إلى انقطاع التيار الكهربائي، ومعوقات البيروقراطية، أضِف إلى فرض الضرائب الكثيرة غير المعقولة على المواطن السوري، وتدني مستوى الأجور ومستوى الدخل. 

هذه المشاكل لا تأتي على ذِكرها الصحافة المرئية في سوريا، وذلك عملاً بسياسة التعتيم الإعلامي التي ينتهجها النّظام السوري خاصّةً، وغالبية الأنظمة العربية عامةً، التي تعكس مرآة وجهها السعيد، وليس العبوس. إن سلسلة "مرايا" النّاجحة، ما زالت تُعرَض إلى اليوم على بعض الفضائيّات، رغم أن الفنان ياسر العظمة توقّف عن إنتاجها منذ عام 2013، والتي صُوّرَت في الجزائر، بسبب الحرب الإرهابية التي تتعرّض لها سوريّا منذ آذار 2011. 

طالما أن نبض الهموم يقرع في صدور المواطنين بلا توقف، ما زال هناك فكر يبدع، لأن الكوميديا هي صابون القلوب، وسلسلة مرايا جاءت لتقول الأمور التي لا تستطيع قولها جادًا، بل أشارت إليها بالسخرية والغمز، وهي العامود الفقري الذي إذا كسرته مطرقة الرقابة الشديدة جدًّا، شُلَّ جسد الإبداع الفني في سوريا.