[x] اغلاق
وداعًا يا صاحب الوديعَة لذكرى رحيل الياس جبّور جبّور (أبو جبّور)
13/1/2021 8:47

وداعًا يا صاحب الوديعَة

لذكرى رحيل الياس جبّور جبّور (أبو جبّور) 

بقلم: ماروُن سَامي عَزّام

عندما يداهم القدر حياة الإنسان الهادئة عنوةً، دون استئذان، يصبح الأمر مُقلِقًا للغاية، كما كنتُ قلقًا طوال فترة المرض القصيرة للعم الغالي الياس جبّور، أبي جبّور، الذي وقع فجأةً في أسر شبكة الموت. عندما سمِعتُ الخبر، انتابَتني عاصفة شديدة من التأثُّر، هزّت ركن صفائي... زعزعت كياني... بلّلت دموع الوداع وجهي، غصة الفراق كانت كالعلقم في فمي، ففقدتُ القدرة على الكلام في ذلك اليوم الذي لن أنساه من صباح 2020/12/23، عشيّة الميلاد المجيد، وتحوّل إلى تاريخ يُسجّل في سِجِل تاريخ هذه المدينة.                

زهّرت ورود الحب في بستان الوفاء... أشرق نجم شخصك السّاطع بالكرامة على أهل البلد، منيرًا سماء مجتمعنا عامّةً وشفاعمرو خاصّةً، واهتدى النّاس إلى مغارة مبادئك الثّابتة. انتشرت حرائق الذّهول في أرجاء البلاد بسرعة، فطالت مناطق السلطة الفلسطينيّة، لسعت نيران الفراق عيون قادتها المندهشة من هذا الحدث غير المتوقّع، فاغرورقت بالحزن الشديد. 

فارقتَنا يا أبا جبّور في ظروفٍ صحيّة عصيبة، بعد أن طالتك عدوى الكورونا اللئيمة، التي وقفَت حائلاً بيننا وبين وداعكَ الأخير، الذي شاء القدر أن يَحرِم الجماهير من إلقاء النّظرة الأخيرة على جثمانكَ. تألّمنا عندما تناثَرَت حبّات مَسبَحَة وجودكَ. رحلتَ بصمتٍ مخيف. خطفك منّا الموت، أسدلَ علينا ظلمة الفقدان، وفي تلك اللحظات تخيّلتُ موكب جنازتكَ المهيب يمرّ في ذاكرتي، وخلفك آلاف المشيّعين. 

أبو جبّور لم يكن فقط زعيمًا محليًّا أو قُطريًّا، بل هو سيِّد الإنسانيّة الحقيقيّة والمعطاءة، فتجلّت من خلال إدارته لجمعيّة "بيت الأمل" التي كانت توزّع سنويًّا على العائلات المحتاجة الشفاعمريّة، موادًا غذائيّة... لم يتصاعد بخار الكبرياء إلى رأسه، بل بقي على سجيّته، لم يكسُ ضباب انعزاله السّياسي، مجال رؤيته الوضع البلدي الرّاهن المتأزّم في شفاعمرو. 

ما زلتُ أتذكّر إلى هذا اليوم حين زارني في المستشفى ليلاً في عام 1992، ووقف حينها أمام سريري يواسيني، ونظراته أشعّت تعاطفًا وحُبًّا... الحالات الإنسانيّة التي عايشها، بقيتْ ركنًا أساسيًّا في معادلة حياته اليوميّة، فكانت عائلته وطنه الصّغير الذي أحبّه، جَمَعَ فيه أبناء أسرته، خدمهم بتفانٍ، مكرّسًا وقتًا لأحفاده الذين حضنهم برعايته. كان دومًا المرجعيّة الأولى لأي مشورة طلبَتها منه عائلته، وهو صاحب القول الفصل في أي أزمة أو قضيّة، لرجاحة تفكيره، إن نصائحه لأحبّائه ولمقرّبيه، كانت قناديلاً تربويّةً، دلّتهم على دروب الصّواب. 

صلة القربى لغاية انصهار العائلتين، كانت أساسيّة بالنسبة لأبي جبّور، وخاصةً مع العم الرّاحل شفيق عزّام، فكان أبو جبّور يقدّر رأيه الصّائب عاليًا، ويحترم خبرته. زيارات الراحل لنا كانت محبّبة، لأنّه تمتّع بروحٍ عالية من الانسجام مع من حوله. 

كنّا نفتخر عندما كنّا نطلبه أن يرافقنا في مناسبة ما، ولم يتوانَ يومًا، وكنّا نعطيه مكانته التي تليق به، وحق الكلام، لما تمتّع به من لباقة الحديث ومعرفة الأعراف والتقاليد. عندما كان يسهر عندي، كان الترفيه الوحيد الذي يطلبه منّي، مشاهدة مسرحيّته المفضلّة، "كاسك يا وطن"، واعتبرها الرّاحل انعكاسًا حقيقيًّا وأزليًّا للوضع العربي عامّة والشرق الأوسط خاصّةً. 

عندما اشتعلت في شفاعمرو أحداث حُزيران الأسود في عام 2009، واعتُديَ على منزله، لم يتّهم طرفًا، رغم ذلك بقي أبو جبّور محور الوحدة لجميع أبناء شفاعمرو. أعتَبرُ حديثه الدّائم عن التّعايش بين الطوائف، سيبقى جسر التلاقي بينها، الذي مرّت عليه حكمته الاجتماعيّة وحنكته السياسيّة وبُعد نظره، واحترمها كل من استمع لأحاديثه دون اعتراض، كون الرّاحل من رموز الاستقامة وميزان العدالة. لم يحبّذ أبدًا استخدام كلمة "طائفة"، بل استخدم كلمة "الجميع"، على اعتبار أن شفاعمرو عائلة واحدة متناغمة، تعيش في بيت الوئام الكبير الواسع بالأُلفة. 

رفوف الذكريات مع العم الفاضل أبي جبّور، مُكدّسة، مليئة بالجلسات والمناسبات الشخصيّة، أحتفظ بها في مكتبة ذاكرتي، ومن أهمّها، عندما أوكل إليّ مَهَمّة تصميم غلاف كتابيه عن تاريخ شفاعمرو، والإشراف على تنضيدهما ومراجعة نصّيهُما، وذلك خلال الاحتفالات بمئويّة بلدية شفاعمرو... وكان يزورني ليلاً في مكتبي، يسير بتؤدّة، لابسًا جلباب الوقار، فاشتغلنا سويًّا وتناقشنا في ترتيب صور كل كتاب، وعندما كان يقرأ بعض النصّوص من الكتاب، كانت نبرة صوته مميّزة، فيها شجن الحنين إلى الماضي. 

كان التّفاهُم القاسم المشترك بيننا... أصدر الكتابان على نفقته الخاصّة، رافضًا بأدب أي دعم خارجي، فوزّعهما على من يُقدّر تاريخ شفاعمرو، ولم يساوم عليه، لأنه كنز مقدّس، ممنوع التفريط به. جميع إصداراته الأدبيّة والتوثيقيّة، كانت تكريمًا لمسيرته الحافلة بالإبداع، ولكن يبقى الأهم أنها كانت هديّة ثمينةً لعشقه الأول لمدينته شفاعمرو... وكان يعتذر في كثير من الأحيان بلباقة عن أي تكريم كانت تقوم به أي مؤسّسة، لأنه اعتبر ما قام به من إنجازات وأعمال من أجل المجتمع، كانت للحفاظ على صموده وعدم تفكّك روابطه الاجتماعية.

الوديعة التي وضعها أبو جبّور بين يدي، هي مادّة كتاب السيرة الذّاتية لوالده المرحوم جبّور يوسف جبّور، والتي تحتوي على مجموعة قيّمة جدًّا من المقالات والمراسلات، والصور التاريخيّة لأهم المحطّات في حياة والده، وقد زارني المرحوم قبل وفاته بفترة وجيزة، ليأخذ نسخةً من المادة... كان هذا حلم حياته، والذي تمنّى أن يحقّقه، وكان محور لقاءاتنا، رغم أنّنا أوشكنا على وضع اللمسات الأخيرة عليه، لكنّ شرارة الموت دَنَت من جسده، وحَرَمَته من إصداره، صادرت فرحته بهذا الإنجاز الكبير، فارضةً عليه عزلةً أبديةً عن الحياة، فأبعدته عنّا، مغلقةً عليه أبواب الآخرة.