[x] اغلاق
لذكرى رحيل الصديق أمين حليم تلحمي (أبو شادي) تبعثَـرَت رزنامَة العُمُر
8/9/2022 10:15

لذكرى رحيل الصديق أمين حليم تلحمي (أبو شادي)

تبعثَـرَت رزنامَة العُمُر

بقلم: مارُون سامي عَزّام

عندما وصلني على هاتفي رسالة قصيرة فحواها، خبر رحيل الصّديق أمين تلحمي، كنت في مناسبة اجتماعيّة، فانزوَيتُ مع حُزني للحظات، ووضعت حاجز الفراق بيني وبين من حولي. سطَعَت دموع الوداع عند مرفأ ذهولي في تلك الليلة، وأبت أن تغادره، فبلَّلَت أوتار صوتي، وغَصَّ الكلام في حنجرتي. لم أتوقّع رحيله أبدًا في هذا الوقت تحديدًا، إذ اعتقدت أنه منهمك بإصدار رزنامته الشَّهيرة، التي من المفروض أن تصدُر عادةً أواخر الصّيف، أي مع قُدوم شهر أيلول، فكان يُحضِّرها لوحده، مُستمتعًا بهذا الإنجاز المميَّز جدًّا.

هذه الرّزنامة الأكثر شهرةً في شفاعمرو، تكاد لا تخلو من أي منزلٍ أو مؤسّسة أو حتّى مكتب، فإنّها تحتوي على تواريخ هامّة ومواسم أعياد جميع الطّوائف، ومناسبات عامّة، وعبارات وتراتيل دينيّة مسيحيّة. على مدى ستين عامًا وأكثر... ظلَّ الرّاحل مواظبًا على إصدارها سنويًّا، حتّى عندما أقعدته الشّيخوخة، ولازمه المرض، لم يتوانَ للحظة عن الاستمرار في مشروعه الشّخصي، الذي بات تراثًا شفاعمريًّا موسميًّا، ننتظر قدومه بشغف، مثل أي موسم آخر، كما كان المرحوم حريصًا على أن يُوصل رزنامته لبعض الأشخاص الأوفياء له، الذين لهم معزّة خاصّة في قلبه.

تغنّى أبو شادي، بمحبّته لعموم أهل بلده، الذين ما زالوا يتذكّرون لطفه ودعابته، حتّى غدت مذكِّرات من تاريخ هذا البلد، برحيله فقدت الطّائفة المسيحيّة خاصّة، وشفاعمرو عامّةً إنسانًا طيِّبًا، ولكن كهنة ورؤساء هذه الطّائفة الذين تعاقبوا عليها على مرّ السّنين، تغاضوا عن تكريمه في حياته، تناسوا نشاطه الموسمي البسيط والمهم في آنٍ واحد... هذا الرّجل المعتّق بالأصالة كان يستحق حقًّا التقدير الكبير، فالخدمات الكنسية التي قدّمها المرحوم أمين، على مدى نصف قرن من الزمن، كان يجب أن تسجّله طائفة الرّوم الملْكيين الكاثوليك على رزنامة مناسباتها!!

في الماضي كان النّاس يدوِّنون على رزنامة أبي شادي ذاكرتهم، ومواعيدهم لئلّا تفُوتهم... عرفوه أيضًا كمُرَنِّم كنَسي، ميَّزوا خامة صوته، فأجاد التراتيل البيزنطيَّة، كان في بعض الأحيان يُرتّل بعض المقطوعات على ألحانٍ مختلفة، لأنه أحبَّ التّنوّع في الترتيل... أذكُر أنه كان يكتب بعض الصّلوات بخط يده الجميل، هذا يعكس قوّة تمسّكه بدينه، كنوعٍ من التناغم الرّوحي مع الرَّب، وإخلاصه للكنيسة المحاذية لمنزله.

كم كان المرحوم يتعامل مع أسرته، بأسلوبٍ أبويّ، قرَّبه أكثر من أبنائه، الذين أناروا حياته بشموع الوفاء لتربيته الصّالحة، كما أنار حياتهم بأنوار الفضائل، ليعرفوا قيمة الإنسان وتقييمه. هذان المبدآن كانا ركنًا أساسيًّا في تعامل أبي شادي مع الآخرين. زوجته الفاضلة، البشوشة، كانت سنده الأوّل طوال عُمره... حرِصَت على صحّته... رافقته كشريكة أيّامه، دعمته بصبرها، كانت أمينة على منحه جودة حياة أفضل، إلّا أنها أطاعت أوامر القَدَر، الذي تحكّم بالظّروف الحياتيّة للمرحوم، لكنّها قاومت القَدَر بصلواتها ودعواتها.

كُنتُ على موعدٍ دائم مع مكالمته الوديّة المحبَّبة إلى قلبي، مكالمة فيها نُبل حقيقي، نادر الوجود... فيها اطمئنان عليّ وعلى أسرتي... فيها راحةً لي، أكّدت لي وجود هذه النّوعية من النّاس الذين يسألون عن الآخرين هاتفيًّا وليس افتراضيًّا... هذا دليل احترامه لعائلتنا، لقد كان يسألني دائمًا اسميًّا عن جميع أفرادها، وظلّ يَذكُرُهُم حتّى في مرضه، لغاية آخر مكالمة تلقّيتها منه قبل شهرين أو أقل، حينها، كانت نبرة صوته متفائلة، كعادته في كل مكالماته لي... كانت ضحكاته تملأ أذُني بالأمل والطُّمأنينة عليه، وكان دائمًا يقول لي: "الحمد لله".

بالنسبة لأبي شادي، هذه المكالمات الهاتفيّة، عرفان كبير منه لحق الجيرة الغالي عليه كثيرًا، متمسِّكًا بشدة برباط هذه العلاقة القديمة التي جمَعَت بين العائلتَين، في حي باب الحواصل التّاريخيّ، هذه هي قمّة الإنسانيّة في شخصيّة العم أمين... لكن تيّار القدر العنيف لا يرحم أحدًا، قاسٍ جدًّا، جرَف حياة المرحوم نحو منحدر الموت، فتبعثرت رزنامة عمره على درب الحياة الأبديّة.

قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏منظر داخلي‏‏