[x] اغلاق
فنّانَة رَسَمَت لوحة حياتها بريشة البساطة لذكرى رحيل الفنّانة تيريز نَصِر - عزّام
10/1/2024 9:02

فنّانَة رَسَمَت لوحة حياتها بريشة البساطة

لذكرى رحيل الفنّانة تيريز نَصِر - عزّام

بقلم: مارون سامي عزّام

مع نهاية كل عام يقوم القدر بعمليّة جرد واسعة للبشَر، فلا يتوقّف عن أخذ الأشخاص إلى عنبر الموت المخيف، كأن صلاحيّات عيشهم انتهت فجأة، سواءً كانوا بالغين أو في عمر الشّباب، وبالأخص عندما يرحل عنّا إنسانًا عزيزًا جدًّا علينا، أمثال الفنّانة التشكيليّة الحيفاويّة تيزيز نَصِر-عزّام، زوجة المحامي الرّاحل المعروف رضى عزّام. كان هذا الحدث مرعبًا في نظري، لم أتوقّع حدوثه... لم يخطُر ببالي أن يعترضها هذا المرض القذِر، الذي لطّخ جسدها بالمعاناة والعلاجات، استطاع أن يسلبها حياتها بهذه السرعة.

رافقتُ أهلي في زيارات عائليّة عديدة لمنزل المرحوم رضى في حيفا، استقبلتنا المرحومة بابتسامة واسعة بالتّرحاب واللطافة... لم تخلُ مجالستها من المتعة، المرح والأحاديث الطّريفة التي لن تُنسى، الشّيء المهم الذي راعى انتباهي كثيرًا هو لوحاتها الواقعيّة التجريديّة المعلَّقة على الجدران، لقد شعرتُ أنّي أتجوَّل في معرض منزليّ، لأنّ تيريز اخْتَلَفَتْ عن سائر السَّيِّدات اللّائي يقتنين ديكورات ثمينة وباهظة لمنازلهنّ، بينما افتخرت ببساطة منزلها، أثَّثَته برُقيّ ذوقها الفنيّ البسيط الذي غطّى أرجاءه. 

كانت سيِّدَة مضيافة، وفيّة جدًّا لأحبائها ولمعارفها، عَرَفَتْ واجبها تجاه ضيوفها، عَرَفَت تقديم واجباتها اليوميَّة تجاه زوجها على طبق من الاحترام. اعتَبَرَتْ أُسرتها فنار الأمان الذي أضاء رصيف قناعاتها بالوعي، لأنّها كانت فنّانة حقيقيَّة في تعاملها مع كريماتها، فمنحَتهنّ حريَّة التَّصرُّف ضِمن الحدود المتَّبعة... منحتهن حق تقرير مصيرهنّ الشَّخصيّ. 

عَرَفَتْ الرّاحلة أن تكيل الوفاء لعائلتنا، وتحديدًا لوالدتي أطال الله بعمرها، حافظتْ على الرّابط الأخوي حتّى بعد رحيل زوجها، إن هذا يدل على اهتمام الرّاحلة باستمرار العلاقة العريقة بين العائلَتَين. في كل زيارة لها لمدينة شفاعمرو كان حتمًا عليها أن تزور والدتي للاطمئنان عليها، لذا اكتسبت كريمتها ورفيقتها "لنا" هذه الصّفة الرّائعة، علّمتها أن الواجب العائلي من الأولويّات، رغم انخراط الرّاحلة بشغلها وفنِّها، ومتابعتها لتفاصيل الحياة الصَّاخَبة التي جعلتها تركض في مساحاتها المتعِبَة.

كانت شريكة معنا في كل مناسبة، لم يهمها عناء السَّفَر الليلي، بل آثرت أن تشاركنا كلّ المناسَبات، أذكُر آخر مرّة التقيتها في فرحٍ عائليّ، كانت بغاية الانبساط لم يبدُ عليها أي أمارات التعب أو المرض، استمتعتْ بصحبة أسرتنا، اندمجت مع الجو الصَّيفيّ الرَّطب بالطَّرَب، رحَّبت بكل من أتى ليُلقي عليها التّحيّة، لأنّها بسيطة المعشَر، اعتبرناها فردًا منّا، واعتَبَرَتْنا جزءًا من أهلها.         

تألَّق فنّها، راسمًا لها درب العطاء بريشة المثابرة، هندَسَ لها نهج حياة مغاير، رفرفت فيه الروح الثقافيّة العالية التي حلَّقَت في أجوائها، استطاعتْ خَلْق موازاة بين حياتها المنزليّة والمهنيّة، فكانت ميزان السُّلوك العادل، بالإضافة إلى توفُّر الهدوء الذي هو أساس التّجلّي الفكري لأي فنّان أراد التَّميُّز الإبداعي في فنِّه أو عمله، مثل الفنّانة تيريز عزّام.

تمسكت الرّاحلة باستقلالية خيارات الفرد المستقبليَّة، أخلصت لمبادئ الحزب الشّيوعيّ، ولم تُبَدِّلها، حملت هويّة انتماءها للوطن، ساهم تواضعها في تطوير مسيرتها العمليّة، ممّا ساعدها على بلورة نجاحها، دعَت لإحلال السّلام بين الشّعبَين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، غمست ريشتها بدواة واقع المرأة الفلسطينيَّة المقموعة... عبَّرَت بلوحاتها عن عزّتها... أظهرت ملامح قدرتها على النضال لمقاومة غطرسة الاحتلال. اليوم رغم صراع الرّاحلة مع جنون الزّمن الذي لم يرحمها، رغم نضالها ضد المرَض، إلّا أن الرّب دعاها لسلامٍ ربّانيٍّ أبديٍّ، ورقدتْ على سرير الرّاحة، مُحاطة بالملائكة، مغمِضةً عينَي السِّنين المُتعَبَتَين.               

        May be an image of 1 person and smiling