من أين نبدأ مع سيمون عيلوطي ، وكل أشعاره العامية رشيقة معتقة كبنت الحان . لذلك لا غرابة أن تستحوذ علينا لذة تتداخل فيها عناصر الحس والذهن حين نقرأ :
" انْتي المَرا اللي بْشوفها / بكل الصّور / بْهبّ الهوا يقطر الندى / يْموج البحر / انْتي الصبح وشروقو / حبّات المطر / لمْنعْنفه هيك بْهداوي / عالشجر / انتي اللي جوا القلب / وَرْدات القمر / قنديل مَحبّي ضاوْيي / ليل السّهر " .
انه يمنح المرأة قيمة معنوية ، خصبا وبعدا ، عبر قالب جميل من الألفاظ المعبرة عن الفكرة ، إذ ليست الفكرة هي المقياس ، إنما التعبير عنها ؛ والتعبير الأفضل والأكثر ثراء هو ما يتقن عملية كيمياء الشعر المتمثلة باللفظة والموسيقى والعاطفة والحدث والخيال . وهذا جلّي عند سيمون ، كما في هذين المقطعين من قصيدته الموسومة تطاير الدّروب :
" بوّابة الأحلام فِ وجّو سَكّرَت / وتطايرت من دون دَعْساتو الدّروب / عم يركّضوا عَ الشمس / يمكن أشرقت ؟ !! / يا شقشقت في وَعد أنّات القلوب " .
المقطع الثاني :
" فِ فُنونو هآلأشعار ياما يْصدحو / وْينسو أسى وَيلات / ما إلها حدود / عاطريق الألم ياما تْجرّحو / حَفْر قَنا دمْعاتْهن فوق الخدود / رَغْم السّحق .. / قِِِِِِِِدْرو معانا يفرحو / بْوجه العواصف صارو وَردات الورود / حِصَارو تَزْيف العواصم / يْفضحو / تْحِلّ العداله عَ الأرض / كِذْب وْوعود / وتطايرت من دون دعساتو الدّروب"
نلحظ ان العاطفة تمتزج بالعنصر الأخلاقي والفكري ، تتمخض عن موقف وطني وإنساني تجاه قضية أو أزمة ، وتحديدا أزمة القائد عرفات عندما حوصر . والعاطفة عند سيمون تختلف باختلاف الظرف والحدث ، فتارة تتولّد بفعل الواقع المؤلم كما في حصار عرفات ، وطورا هي نزوع فطري أكثر من ميل ورغبة ، كما سنرى في هذه الطفرة من قصيدة خمرة معتقة :
" يا رايحه بمنديل أويا مبشنقة / لا تبعدي روحي معاكي معلقه / بتتذكري لما التقينا عَ الندى / بكرم الهوى قديش طال الملتقى / مشينا سوا وما كان شايفنا حدا / غير الشجر والطير بَلش زقزقه / لما لقانا نموج مثلو عا هدى " .
يستمرئ الشاعر عبق الزمان والمكان ، يستعير من الطبيعة حركتها وصوتها . وهو مولع بالمفردات المميزة يضعها بدقة في أماكنها الصحيحة ، لم أجد في العربية مفردة أكثر جمالا وأفضل ملاءمة في موقعها من كلمة " نموج " المقطع الأخير من خمرة معتقة . لا أعرف إن كانت هذه المفردة وغيرها من المفردات المتألقة تأتيه طيعة مشرقة كعشيقة ابن زيدون ، أو يجد الطلب خلفها كالأمير " هان " في الأسطورة الصينية . بيد أن الموسيقى لها وقع أكثر جاذبية بانسجامها ونعومتها المغذية بمخيلة شاعرنا الملهم :
" شايف جَفْرا / رَغم البعد ، الغيم ، الصحرا / تِمْسك ناي وغِنْوَه وْزهره / تِحْمِلْ جَرّه / تِسْقي ناري الظهر الحمرا / شايف جَفْرا / عْيون السّودا / خْدود البيضا / وْقَمْطَا الخَضْرا / ترجَعْ مِنْ هالغّربه / الحَسْره / تصبْ القَهْوه الحلوه .. المُرَّه / تغَنّي جَفْرا " .
" جفرا " في الأساس هي أغنية فلسطينية كانت تصدح فرحا وبهجة يوم أن كانت فلسطين في عزها . والآن جفرا بزيها المتطور الجديد هي في وجدان الشاعر أمنية تنداح الى الشتات ، ومن ثمة ترتد مفعمة بأمل العودة وانتهاء الإغتراب .
إن ما يميّز اشعار سيمون عيلوطي بالمجمل ، أنها متحررة من حالات التكلف والمبالغة ، خاضعة لمعايير وشروط الشعر العامي ، والتي منها السلاسة وجمال الصورة ، عدم الإبتذال وعدم فصحنة اللغة . وهذا يحفزنا لقراءة هذه النماذج بغبطة ، رافعين تحية كبيرة الى هذا الشاعر المبدع والأصيل .